بقلم : طارق الشناوي
عندما نبتعد عن الحدث لا يعنى ذلك أننا لا نعيش فى قلب الحدث، الجونة كمهرجان ومنتجع وجمهور، ليس له علاقة مباشرة بما يشغلنا الآن على أرض الوطن، إلا أن ما يمكن أن تلاحظه هو أن الكل هنا لديه رغبة عارمة فى معرفة الحقيقة، الضيوف عرب وأجانب يتابعون، بينما لا يستطيع أحد منا أن يقدم إجابة شافية، الإعلام الرسمى المقيد لا يقل إلا ما تريد إعلانه الأجهزة الضابطة والحاكمة والمسيطرة، بينما القنوت الأخرى خارج الحدود تقدم صورة مبالغا فى تفاصيلها، ونحن حيرى، بح صوتنا من ترديد بأن الطريق الوحيد للنجاة هو فتح الباب لكل الأطياف للتعبير، على الشاشات المصرية، وسقوط مبدأ (قل ولا تقل) تابع مثلا مقالى قبل ثلاثة أسابيع (احذروا غضب العصافير).
بالصدفة تكتشف أن الإجابة أو شيئا منها تستطيع أن تراه على الشاشة فى فيلم (البؤساء) عن رواية فيكتور هوجو، الذى عرض فى (كان) وجاء (الجونة)، هوجو كتاباته تومض فى المشاعر وتحرك العقول وتدفع الشعوب للتغيير، ولد فى مطلع القرن التاسع عشر، وعاش أكثر من 80 عاما، وعندما بلغ الستين من عمره كتب رائعته (البؤساء) موثقا الثورة الفرنسية، وصارت تلك الرواية مع الأخرى التى سبقتها (أحدب نورتردام) أيقونتين فى الضمير الجمعى العالمى، ومنحتا الخلود لهذا الكاتب الاستثنائى ومنحتنا عبر الزمن نشوة الأمل.
وإليكم بعض كلماته، (طالما توجد لامبالاة وظلم وفقر كُتب كهذا الكتاب ستكون ضرورية دائما)، (لا يمكن أن تجد نهاية للظلم، ولا للبؤساء فى كل دول العالم إلا بالثورة).
للسينما فى علاقتها بالأدب قانونها الخاص، تتجلى فى تقديم إطلالة خاصة من خلال الأدوات التى تملكها، مؤكد أن المخرج لا درج لى لم يلتزم بالنص، فقط اقتنص العمق الفكرى وأقام عليه رؤيته، وهذا هو الدرس الهام، يحسب للمخرج حرصه على أن ينسب العمل لصاحبه، رغم أنه قدم فقط اللمحة الفكرية، ولم يلتزم بأى تفاصيل أخرى، وقف فقط تحت مظلة هوجو.
متعة ذهنية تستشعرها لو أعدت قراءة الرواية، ولكننا هذه المرة بصدد رؤية سينمائية لها قانون آخر، أجاد المخرج الفرنسى لادرج لى، الذى شارك أيضا فى كتابة السيناريو، الإمساك بتلك الومضة، وعنوانها أن الثورة آتية لا ريب فيها، فهى ابنة شرعية للظلم، ومهما زادت مساحات القمع فإنه يتحول مع الزمن إلى وقود للاشتعال.
التقط المخرج هؤلاء الذين يعيشون على الهامش فى فرنسا، مثل أصحاب البشرة السمراء والمهاجرين من الشباب والأقليات الدينية، هؤلاء الذين يصطدمون دوما بالأجهزة الأمنية، عبر عنها من خلال دورية شرطة يقودها مجموعة من غلاظ المشاعر يطبقون القانون بصرامة وعنف.
استطاع المخرج الحصول على أقصى درجات التلقائية من أبطاله، كما أنه استخدم الموسيقى التصويرية فى لحظات ذروة المشاعر منحتنا الكثير من الشجن والنشوة، أجاد ضبط إيقاع التصاعد النفسى والفكرى والحركى بين هؤلاء الغاضبين ودورية الشرطة، المونتاج بطلا رائعا فى قدرته على التماهى مع جمهور المشاهدين وكأنه يعبر عنهم ملتزما بإيقاعهم، العنف حرك المؤشر 180 درجة لكى تتعاطف مع هؤلاء الخارجين عن القانون، إلا أن القانون الذى لا يرفع شعار الإنسان أولا لا يمكن أن يسمى قانونا!!.
(البؤساء) واحد ومن أهم الأفلام التى استطاع المهرجان اقتناصها، لما يملكه من قوة أدبية وسينمائية ووطنية!!.