بقلم : طارق الشناوي
بدا لم تكن يسرا تُمثل وهى تودع ابنها، خالد أنور، كانت تحلق فى سماء أخرى، متجاوزة كل ما درسناه أكاديميا. ما شاهدناه، قبل يومين، فى مسلسل (خيانة عهد) لا يتم تقييمه تبعا لقانون الفن ولا قواعد التمثيل، إٔنها ومضة نور تسكن قلب المبدع، لتستقر فى قلوبنا، يتجاوز بها كل حواجز الصوت والضوء، ليظل مشهدا استثنائيا فى تاريخ الدراما العربية.
فى ثوان اختلط بصريا المشهدان، وهو يحسب لكتاب السيناريو والمخرج سامح عبدالعزيز، المشرحة لحظة الإنكار كأول خط دفاع لمواجهة الكارثة، ثم الدفن عندما تموت الكلمات، بينما الحقيقة فى الصندوق الخشبى، وفى طريقها إلى التراب، الفنان عندما يواجه تلك المشاهد التى تصل إلى الذروة تبدو للوهلة الأولى أنها أحادية التعبير، إلا أنك تكتشف أنها هى الاختبار الحقيقى للإمساك بكل التفاصيل والمتناقضات المرئية والشعورية، الأمر لا يستدعى بالضرورة صراخا ولا دموعا، فما أسهل على الممثل المحترف أن يستعير من ذاكرته الدمعة والصرخة، ما قدمته يسرا كان صمت الصرخة وحُرقة المهجة، وهما إحساسان يتجاوزان كل أدوات التعبير التى نمسكها بأيدينا، أسلوب أداء يدخل فى مرحلة التحليق، بعيدا عن كل ما يعرفه الممثل المحترف المحنك من أدوات، وهو بالمناسبة غير قابل للإعادة، يتوهج مرة واحدة، إما أن توثقه الكاميرا أو يتلاشى سريعا.
يسرا حالة استثنائية بين نجمات الفن فى بلادنا، تعرف كيف تتواجد بقواعد عامة تفرضها السوق، وهى تلتزم بالقانون العام، ولكن لديها قانونها الخاص، تعثر على مناطق تماس مشتركة، تجمع بين العام والخاص، لتصبح تلك هى دائرتها الإبداعية، لا تستخدم أبدا سلاحا اسمه (قوة الدفع)، الفنان الذى يعيش مع الناس وعلى الشاشات نحو 40 عاما لديه قطعا رصيد جماهيرى ضخم، يستطيع أن يقتات على أرباحه بضع سنوات، إلا أنه بعدها يجد نفسه لا محالة ينفق جزءا من رأس المال، وتضيع مع الأيام تحويشة العمر.
يسرا لا ترتكن أبدا إلى تلك الوديعة، بل تضيف إليها، ومثل الجميع قد تخطئ فى رهان أو تخسر جولة فنية، إلا أنها لا تهزم فى معركة، لديها قدرة على أن تواجه الحقيقة وتعترف بأنها أخطأت وعلى الفور تتجمع كل أسلحة البقاء ليصبح التعثر هو أول خطوة للقفز إلى الصدارة.
سيظل المبدع فى رهان قاس مع الأيام، فى كل المجالات، يثبت الزمن إلا قليلا أنه يملك الكلمة العليا، ومهما تعددت أنماط النشاط الفنى والأدبى، من شعر وموسيقى وفن تشكيلى وكتابة قصة أو مقال، دائما ستلمح تراجعا ما فى القوة الإبداعية مع تدفق مرور السنوات، الأمر يجب أن نُخضعه أولا لقانون الحياة، الذى يخصم من الإنسان الكثير من قدرته على الاستقبال الذهنى والبصرى، وليس أمامه سوى سلاح (ذكاء القلب)، القادر على إخضاع الزمن لصالحه، الفنان الذى يصل إلى القمة، ويصر على أن يشاركه فى (البوستر) كل هؤلاء الفنانين، ومن كل الأجيال، هو فقط من يثق فى نفسه وفى حب الناس وفى شفافية وجدانه، وهكذا حلقت يسرا بهذا المشهد بعيدا، ولاتزال تحلق!!.