بقلم : طارق الشناوي
كلنا أبناء نفس الثقافة، وإن اختلفت الدرجة، الخوف من المغامرة، واحدة من الموروثات التي دأبنا عليها لأنها لا تتطلب جهداً، نعيد تقديم ما نعرفه ومارسناه نحن وأجدادنا، الخروج بعيداً هو ما نتجنبه وعن سبق إصرار، لأنه يتطلب جهداً مضاعفاً، بينما اتباع حرفياً ما شاهدنا عليه السلف، يمنحنا جرعات مكثفة من الكسل اللذيذ، نردد في الأدبيات العربية هذا المثال ربما مع تعديلات طفيفة (عصفور في الجيب خير من 100 على الشجر)، التحرك وقوفاً في المكان بدلاً من التحرك بعيداً للأمام، الدنيا كلها تتقدم عندما نتجاهل ما نُمسكه في أيادينا، ونرنو للأفق البعيد. أول شروط الإبداع هو أن ينسى الإنسان ما يعرفه، ولهذا يقولون إن من يرد تعلم قرض الشعر عليه أن يحفظ أولاً ألف بيت ثم ينساها.
أي أن عليه اكتشاف أبجديته المختلفة وخياله الخاص، استمعت قبل أشهر إلى تسجيل للشاعر أحمد رامي، قال فيه إنه في البداية كلما عرض شيئاً مما كتبه على أستاذه حافظ إبراهيم «شاعر النيل»، تأتي إجابته: «دي عاملة زي صباح الخير صباح النور»، حتى كتب بعيداً عن المعاني المتداولة، وهنا هتف حافظ إبراهيم: «اليوم أنت زميل لنا في قبيلة الشعراء».
المغامرة مثلاً هي التي دفعت أم كلثوم في عز تألقها مع الملحنين الكبار الشيخ زكريا أحمد، ورياض السنباطي، ومحمد القصبجي، أن تمنح الفرصة لملحن جديد لم يبلغ الثلاثين من عمره، هو بليغ حمدي، وزميله الشاعر عبد الوهاب محمد، وتغني لهما «حب إيه اللي أنت جاي تقول عليه»، بينما كانت قبلها تردد «عزة جمالك فين من غير ذليل يهواك»، تحمست سيدة الغناء العربي، لأغنية تُحاكي المونولوج الساخر، كان من المفترض أن ترددها مونولوجست شهيرة، (ثريا حلمي)، لولا استمعت أم كلثوم إليها بالصدفة فقررت المغامرة.
لديكم مثلاً محمد فوزي، عندما لحن بلا آلات موسيقية أغنية «كلمني طمني»، فصارت واحدة من التجارب الإبداعية التي يدرسها طلاب المعاهد الموسيقية.
كان معروفاً مثلاً في السبعينيات أن صوت محمود ياسين أحد أهم عوامل قوته كممثل، وقالوا إن في صوته يكمن سر محمود وجاذبيته الجماهيرية، فقرر أن يلعب بطولة فيلم «الأخرس»، ولا ينطق بكلمة واحدة طوال الشريط السينمائي، ليثبت للجميع أن الإحساس يسبق الصوت، ونجحت التجربة في تأكيد موهبة محمود كممثل يمتلك فيضاً من الإحساس في التعبير.
في فيلم «إكس لارج»، ضحى الفنان الكوميدي أحمد حلمي بأول تعاقد يؤدي للضحك مع الجمهور، وهي ملامحه، فارتدى «ماسكاً» على وجهه وجسده، وبالفعل حقق الفيلم أعلى الإيرادات في تاريخ حلمي. المنتجة اللبنانية ماري كويني، حذروها من الأفلام التاريخية فأنتجت ليوسف شاهين «الناصر صلاح الدين»، فتحول إلى أيقونة للسينما المصرية.
قررت المخرجة اللبنانية نادين لبكي أن تغامر وتنتج فيلمها «كفر ناحوم» إلى درجة أنها تعثرت في تسديد قسط المدرسة لابنها، وحصد الفيلم العام الماضي جائزة لجنة التحكيم من مهرجان «كان»، وكانت هي أول مخرجة عربية تصل للترشيح النهائي لأوسكار أفضل فيلم أجنبي، وحقق الفيلم أعلى الإيرادات في شباك التذاكر داخل وخارج لبنان. انسَ عصفور «الجيب» واحلم بكل العصافير الرابضة بعيداً على أشجار الدنيا!