بقلم : طارق الشناوي
التقت أم كلثوم في إحدى السهرات برجل بادرها قائلاً: «أنا جارك أقيم في الفيلا المقابلة لك»، ردت عليه: «أنت جرثومة» تقصد «جار ثومة».
في مناسبة ذكرى ميلاد أم كلثوم وأحياناً من دون مناسبة، أقرأ الكثير من المفارقات والنكات اللاذعة المنسوبة عنوة لسيدة الغناء العربي، والناس غالباً تصدقها استناداً إلى امتلاك «ثومة» لروح الدعابة، بل ويرددون بكل ثقة ما هو منسوب إليها، من النكات والقفشات، أقصد «القلش»، بمفردات هذا الجيل.
تتسابق الجرائد في ذكر وقائع مشابهة على النحو السابق، ولكن ببعض التأمل نكتشف أن 90 في المائة مما يتردد لا أساس له من الصحة، مستحيل أن نصدق مثلاً أن أم كلثوم تسخر من إنسان لأنه قصير القامة أو سمين أو ضعيف السمع، هل تنعت مثلاً جارها الذي تلتقيه لأول مرة بـ«الجرثومة»، هل كانت أم كلثوم تُمارس «عمال على بطال» على عباد الله «التنمر»، قبل عشرات السنين من تداول هذا التعبير.
أم كلثوم بالطبع خفيفة الظل، سريعة البديهة، لكنها أبداً لم تحرج أو تجرح أحداً، ولا يمكن أن تخرج عن حدود اللياقة أو اللباقة. مثلاً روى الشاعر مأمون الشناوي أنه «التقاها في استوديو (مصر)، حيث كانت تنتظر انتهاء صديقتها تحية كاريوكا، من تصوير أحد الأفلام، وعندما رأت مأمون قادماً سألته عن تحية أجابها (سوف تأتي رأساً) فقالت أم كلثوم (تحية كاريوكا تأتي فقط رقصاً)».
«قفشة» تليق بأم كلثوم، مثلما تداعب أحياناً جمهورها، وإليكم هذه الواقعة في تسجيل حفل أغنية «ليلة حب»، أعادت أم كلثوم ثلاث مرات هذا المقطع «ما تعذبناش ما تشوقناش وتعالى نعيش فرحتنا هنا»، أحد المتفرجين اقترب من خشبة المسرح يريد الإعادة الرابعة، فأشارت إليه قائلة: «ما تعذبناش» فضحك الجمهور.
هذه موثقة ومسجلة ولكن الكثير من نسج خيال البعض، ليست فقط أم كلثوم التي تلتصق بها مثل هذه الحكايات الملفقة، توفيق الحكيم وعباس محمود العقاد وكامل الشناوي وغيرهم، تنسب لهم الكثير منها، وكأنهم قد صاروا مثل «جحا» تلك الشخصية الأسطورية التي تصنع لها في كل يوم حكاية جديدة، وكل بلد لديها «جحا»، بل كل شخص أحياناً من الممكن أن يروي نكتة وينسبها وهو مطمئن تماماً إلى «جحا».
الغريب أن بعض معاصريها أيضاً ينسبون إليها بعض الحكايات، مثل تلك التي رواها موسيقار قائلاً: «إنها رأت حماراً يتبول في النيل، فقالت، نعم أليست هذه هي مجاري النيل»، الموسيقار لا يريد أن يسخر من أم كلثوم بالطبع، ولكنه يقدم هذه النكتة التي قرأها منسوبة إليها، على اعتبار أنها دليل على خفة ظلها، وهنا تكمن خطورة تصديق كل ما هو في تراثنا الأدبي والفني والسياسي، ليس كل ما هو في الأرشيف حقيقة، رغم أنه قد يبدو ظاهرياً كذلك، البعض يردد الحكاية ثم مع كل إعادة تدوير يضيف لها بصمته الخاصة.
علينا غربلة كل ما يتردد، الأكاذيب أكثر بكثير من الحقائق، هناك من تعود أن يضيف من أجل «تحلية البضاعة»، وما تقرأه يدخل في إطار زيادة «التحابيش» الساخنة على الحكاية القديمة حتى تُصبح طازجة و«سبايسي»، غير مدركين أن بعض الحكايات التي أرادوا من خلالها مثلاً إثبات خفة ظل أم كلثوم، تتحول مع الزمن إلى أسلحة تطعن بها، وتصبح دليلاً عكسياً على الغلظة و«التنمر».