قبل أيام قليلة، طوى «برلمان 2022» الذي انتُخب في 15 مايو (أيار) الماضي ربع ولايته، ليبدو برفضه انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وهو الدور الأول المنوط به، كأنه امتداد لبرلمانات ما قبل ثورة «17 تشرين».
في ربع الولاية الأول، غيب البرلمان هموم المواطنين؛ فهم مجرد أعدادٍ زائدة. فنسبة الـ82 في المائة من اللبنانيين الذين نُهبوا وأُفقروا وباتت أكثريتهم، وفق تقارير أممية موثقة، تحت خط الفقر، بينهم عشرات ألوف العائلات التي تعيش في بيوت البرد والحر، وينام الألوف المؤلفة من أطفالها من دون عشاء، لم تدرج يوماً حقوقها ووجعها على جدول أعمال المتسلطين ممن يتعاطون مع البلد على أنهم مخلدون من طينة أنصاف الآلهة، فوق الدستور وفوق القانون وفوق الناس، والبلد صغير عليهم!
أبرز «الإنجازات»: موازنة اقتصرت على جمع أرقام تلاعبوا بها قبل نشر قانونها، وقانون ملغوم لرفع السرية المصرفية ترافق مع مساعٍ لعفو عن الجرائم المالية، ومطالبة بـ«صندوق سيادي» يستبطن مخطط «سلبطة» على أصول الدولة بذريعة «تعويض» المنهوب! ومصادرة أصوات المواطنين بفرض تأجيل ثانٍ للانتخابات البلدية والاختيارية... إلى التخلي عن «كاريش» ومنح إسرائيل الوصاية على «البلوك رقم 9»، يوم اقترع البرلمان بأكثرية 112 من أصل 128 على إسقاط الخط 29؛ خط السيادة والثروة.
إنها أبرز «إنجازات» المطبخ التشريعي الذي يقوده نبيه بري الرئيس الأزلي للبرلمان، يعاونه مِن على يمينه رئيس لجنة المال النائب إبراهيم كنعان، ومِن على يساره رئيس لجنة الإدارة والعدل النائب جورج عدوان، وينسق الأعمال مساعد بري النائب علي حسن خليل، وهو بالمناسبة مدعى عليه بجناية «القصد الاحتمالي» بالقتل في جريمة تفجير المرفأ، ويُعدّ واقعياً فاراً من العدالة!
وسط هذه المشهدية التشريعية لا يعود مستغرَباً المصير الذي آل إليه التحقيق في جريمة تفجير المرفأ، ولا منحى كمّ الأفواه في استهداف الحريات والعدالة، وامتناع القضاء عن متابعة الجرائم المالية، إلى التواطؤ في تغطية قضية رياض سلامة.
الأكيد أن الذروة في هذه المشهدية تمثلها تخريجة قاضي التحقيق، شربل أبو سمرا، لسلامة؛ بإعلانه تعذُّر العثور عليه لتبليغه موعد جلسة الاستجواب في باريس لتبرير هروبه. فبات منذ الثلاثاء فاراً من العدالة، ومطلوباً توقيفه فوراً، إثر صدور مذكرة توقيف دولية بحقه! سلامة متهم دولياً بالاختلاس وتبييض الأموال؛ ما يحتم إقالته فوراً، وتوقيفه وإحالته إلى القضاء، ووقف التواطؤ السياسي القضائي والأمني الذي يحميه، حماية للبلد من تداعيات تنكر لبنان لالتزاماته الدولية؛ مكافحة الفساد والتهريب والاختلاس وتبييض الأموال!
تتم هذه الممارسات بعد انتخابات تميزت ببروز معارضة ناشئة تشرينية رفضت الدولة - المزرعة، وتوحدت حول مهام استعادة الدولة المخطوفة، وتمسكت باستعادة الدستور والقرار الوطني واستقلالية القضاء. انتخابات شهدت اقتراعاً عقابياً بوجه أطراف نظام المحاصصة الذين حولوا لبنان إلى أرضٍ محروقة غير صالحة للعيش؛ فشكل التصويت العقابي رفضاً لسياسات توجت الانهيار المبرمج، وأوصلت إلى تحالف «كاريش» الذي انتهك السيادة وأهدى الثروة للعدو. تتم هذه الممارسات رغم نجاح صوت التغيير كناخبٍ أول في حرمان «حزب الله» أكثريته، ومنع الأغلبية عن معارضيه، ويحد من رهان الأوليغارشية الطائفية على الانتخابات لتُجمل مخالبها، والأهم كسر مشروعها؛ محو «ثورة 17 تشرين»، وشطب مفاعيلها!
لقد حولت المعارضة التشرينية الشعبية فئات واسعة من اللبنانيين إلى لاعبين سياسيين، وبدا ممكناً تقدم منحى بلورة قوة شعبية على طريق قيام جبهة سياسية بديلة، تدفع إلى الأمام مناخ إنهاء الخلل الوطني بموازين القوى. كان يجب أن تستند إلى دعم هذه المعارضة كوكبة النواب الذين حملوا تسمية «تكتل التغيير»، وهم لم يدخلوا البرلمان إلا بفضل التصويت العقابي. لكن الآمال خابت أمام رعونة بعض الوافدين الجدد إلى الشأن العام، والأمر لا يقتصر على متشاوفٍ متسلقٍ في ليل. فبدت الحصيلة قاسية مع تراجع إمكانية العمل على تعزيز حالة مواطنية تحاسب كل مسؤول عما ارتكبه بحق المواطنين، وبحق المال العام، وأساساً بحق البلد، إلى توفير إمكانية فتح ملفات المساءلة والمحاسبة وارتهان البلد أمام القضاء المستقل!
غاب الصوت البديل بوجه طبقة سياسية غيبت عمداً النقاش الحقيقي، وعمقت الصراع المجتمعي، لتغطي مسؤولية المتسلطين عما لحق الناس من أذى. استسهل بعضهم تجاهل أثر التصويت العقابي والاستخفاف بمغزى كسر المواطنين القيود وتجاوز الحواجز الطائفية والمناطقية، ليهرولوا باسم «الواقعية» و«السياسة» إلى حجز مقعد لدى «معارضة» النظام! «واقعية» في آخر تجلياتها الرهان على حصيلة «الفيتوهات» بين جعجع وباسيل، لإعلان نجاح «الشراكة» في اختيار مرشح رئاسي، «سيادي» و«إصلاحي» و«مستقل» يقبل به باسيل، لا يزعج جعجع، قدم أوراق اعتماده لـ«حزب الله» يدعمه بري ويرشحه جنبلاط! هزلت!
إلى إدارة الظهر للناس الذين أثبتوا أنهم جديرون بموقع اللاعب السياسي الجديد والنوعي، غابت عموماً مقاربات القضايا الوطنية، بينما أبرزت ممارسات آخرين، ما زال أصحابها يزعمون الالتصاق بالتغيير، خجلاً من واقع اندفعوا إليه؛ فكان أن أسقطوا من حسابهم مآلات الإحباط التي تسببوا بها، وضربوا عرض الحائط بحقوق ومصالح مَن أوصلهم؛ ما سهل اتساع الهجوم المضاد، ليبدو التحالف المافيوي وكأنه أنجز انتصاراً عوَّضه ما خسره في الانتخابات!
التشرينيون أمام تحدٍ كبير. لا بديل عن إطلاق مسار سياسي منظَّم مغاير، محوره استعادة الدولة والدستور. ولأنه ما من ثورة يمكن أن تتكرر، فالأولوية تفترض ابتكار وسائل كفاحية للدفاع عن الحقوق؛ ما سيعزز من عودة الناس إلى الشوارع والساحات، فيعود الوضوح وتسقط محاولات التدجين والتطويع، في مسار أشبه بنهر متدفق ينظف نفسه بنفسه، ويفرض تقاعداً مبكراً على كثيرين!