بقلم - حنا صالح
الموازنة مرآة للوضع العام في أي بلد، لا تُحَمَّل ما لا تحمله أرقامها، ولا يمكن تزيين ثغراتها. والموازنة التي أقرها البرلمان عكست الانهيارات التي تضرب لبنان، والتمادي في الإفقار المتوحش للمواطنين والتغاضي الحكومي والنيابي عن المسؤولية في استدراج الاحتلال، بعدما ربط ميقاتي أمن الجنوب وسلام لبنان بغزة!
لم تلامس الخطب الماراثونية للبرلمانيين وجعَ اللبنانيين. الخدعة الحكومية عن «صفر عجز» أخذت النواب طوعاً إلى ملعب تجاهل واقع أن لبنان في حالة حرب، جنوبه يتعرَّض لتدمير ممنهج وتهجير طال 80 في المائة من سكان جنوب الليطاني المقدر عددهم بـ180 ألفاً، كما طال عشرات الألوف من سكان شمال الليطاني والعرقوب وحاصبيا. مواطنون ضاعت أرزاقهم وطال الدمار عشرات ألوف المنازل، رفضوا وضعية الرهائن في حربٍ مفروضة تحولهم كبش فداء لنهج جعل الجنوب ولبنان أرضاً محروقة خدمةً للخارج!
الذين أداروا الظهر لواقع إغراق لبنان في أتون حرب اندفع إليها «حزب الله» تلبية لمخطط طهران، تجاهلوا تداعياتها على الوضعين المالي والاقتصادي، وتالياً الوضع الاجتماعي لمواطنين فُرض عليهم أن يكونوا «أضاحي» ليس إلا! وطال التجاهل إدارة الظهر إلى مسببات الانهيار التاريخي في عام 2019 الآخذ بالتفاقم، فانعدمت الإشارة إلى منهبة العصر التي أفقرت أكثر من مليون مودع، وكذلك السطو على المال العام، لتسود عنتريات اعتبرت وجود موازنة «إنجازاً تاريخياً»! وبلغ التكاذب ذروته في التوافق على عدم المساس بإطار إيرادات تركز على نهب تصاعدي للفئات المهمشة الأكثر عوزاً؛ خدمة لمخطط تمويل النهب والفساد وحماية «الاقتصاد الموازي» للدويلة، والخروج على الدولة!
عندما التأم البرلمان، الممنوع من انتخاب رئيس للجمهورية، تمّ تجاهل أبعاد انعقاد اجتماعٍ لحكومة العدو على مقربة من الحدود، وتقرير «القناة الـ13» الإسرائيلية من أن العدو حشد 100 ألف من قوات المظليين والمدرعات والمدفعية والهندسة تحضيراً «لحربٍ عالية الكثافة مع (حزب الله) بحال لم تنفع المساعي الدبلوماسية لإبعاد الحزب عن الحدود»... وفي الوقت عينه كانت «يديعوت أحرونوت» تكشف عن أنه «ابتداء من النصف الثاني من يناير (كانون الثاني)، نحن في خضم حدثٍ استراتيجي دولي (قرار محكمة العدل الدولية) سيكون تأثيره على نتائج الحرب في غزة أكبر بكثير من تأثيره على المفاوضات الهشة بين إسرائيل و«حماس». العواقب: «حرب محتملة في الشمال»!
الحرب المفروضة، والمرفوضة شعبياً ووطنياً، لم تكن بين أولويات الماراثون النيابي، فتم تجهيل مسؤولية الحكومة الواجهة التي غطى رئيسها «حزب الله» في توريطه البلد في حرب مدمرة. فكان تجاهل أن «المشاغلة» لم تخفف من حرب التوحش الصهيوني على غزة، ولم تخفف من وتيرة التغيير الديموغرافي مع تأكيد البنك الدولي أن 49 في المائة من السكان دمرت منازلهم! في وقت خدمت فيه «المشاغلة» الاستراتيجية الإيرانية للمنطقة التي تربط إنضاج مشروعها التوسعي بتمدد الأزمات وتعمقها. وما من جهة التفتت لحظة إلى واقع لبنان البلد المنهوب والمرذول والعاجز عن تأمين الحد الأدنى من متطلبات عيش أهله... والكل، حكومةً وبرلماناً، التقى موضوعياً مع «حزب الله» على تكريس منحى مفاده أن حقوق الجنوبيين وكل اللبنانيين، وفي المقدمة الأمان والاستقرار، يمكن تأجيلها ولا تدخل أساساً في حساباتهم!
المشهد الذي على اللبنانيين أخذه بالاعتبار هو أنه من جبال اليمن وكهوفها المسيطَر عليها من الميليشيات الحوثية، إلى جنوب لبنان الذي يتحكم فيه (وبلبنان) «حزب الله»، مروراً بميليشيات «الحشد الشعبي» العراقية المشرّعة قانوناً وقوة الأمر الواقع في آنٍ معاً، يبدو أن النظام الإيراني مستمر عبر أذرعه في اعتماد استراتيجية الضغط على الأميركيين كي يضغط هؤلاء على نتنياهو لوقف الحرب على غزة، فلا يتم تقويض القدرة العسكرية لـ«حماس»! لكن ما هو حاصل أن الضغط تجاوز الخطوط الحمر، سواء في استهداف الأميركيين في الأردن وسقوط أول 3 قتلى من الجيش الأميركي وعشرات الجرحى، إلى استهداف الملاحة في البحر الأحمر وتداعيات ذلك على الاقتصاد العالمي، ما يهدد بخروج الأمور عن السيطرة رغم تأكيدات واشنطن بتجنب مواجهة شاملة، وفي الوقت نفسه تجنب تداعي النفوذ الأميركي في المنطقة!
في هذا التوقيت يصبح التفلت الإسرائيلي من الرقابة الأميركية قاب قوسين أو أدنى لتوسيع الحرب شمالاً. إنها الحرب على لبنان، القرار بشأنها متخذ، يستعجلها نتنياهو لأنها من جهة تطيل عمره في السلطة وتبعد عن رقبته سيف المحاسبة بعدما نجح في تعطيل التحقيق العسكري بجوانب التقصير يوم «7 أكتوبر» إلى ما بعد انتهاء الحرب على غزة، ومن الجهة الأخرى تستعجلها حكومة الحرب التي أسقطت الربط بين جنوب لبنان وغزة، ويراهن عليها المستوى العسكري لاستعادة الردع والهيبة، وهي مغطاة إسرائيلياً بعنوان العودة الآمنة للمستوطنين إلى المستعمرات على الحدود مع لبنان!
الخطر داهم وفات البرلمانيين «سياديين» و«مستقلين» و«تغيير» فرصة التمايز لحماية البلد بإعلان احتضان النازحين قسراً الرافضين للحرب، وتأكيد التمسك بالسلام والالتزام الفعلي بالقرار الدولي 1701. وتتزايد الخطورة مع الكشف عن معطياتٍ حملتها وفود غربية إلى بيروت، وفيها أن تل أبيب نفضت الغبار عن مخطط شارون اجتياح لبنان عام 1982 (...) ونقلوا عن نتنياهو أن الإعداد قائم لعملية في العمق اللبناني لإبعاد «حزب الله» إلى شمال نهر الأولي!
بمعزل عن حجم التهديد والوعيد، وعن مستوى المواجهة، لا بديل عن تخيل حجم الكارثة المحدقة بلبنان بعدما وضعه «حزب الله» والمحور الإيراني في عنق الزجاجة! ينتصر لبنان على العدو عندما يمنع تدمير البلد على رؤوس سكانه. هذه الأولوية ليست على جدول أعمال الحكومة الواجهة، ولم تكن على جدول أعمال البرلمانيين الذين من المفترض أنهم يمثلون مصالح اللبنانيين وعليهم حماية حقوقهم وحماية حيواتهم!