بقلم:حنا صالح
هل صحيح أن نزعة «أصولية» تهيمن على المناخ الذي أوجدته ثورة «17 تشرين»، باتت عائقاً أمام بلورة «حلول»، رئاسية إنقاذية، تضع لبنان على طريق الشفاء؟
وهل من الجائز في زمن الانهيارات العاصفة التي دمرت حياة اللبنانيين، وأذلت أكثريتهم، أن يُقال إن تشرين اللبناني «عقيدة جامدة» تحركها «أحادية ترفض وجود حقائق أخرى»، ووصلت الترهات حد الزعم أنها تعمم «بتبسيط شديد رؤية جامدة لفهم الانهيار»، وصولاً للقول إن التشرينيين يتوسلون «غضب الجموع وعداواتها للآخرين»، في تجاهل مدوٍ لوقائع الانهيار اليومي وتحميل المواطنين ثمن اللصوصية والارتهان، والقفز فوق حقائق كالتي أكدها البنك الدولي بتوصيفه ما يجري جريمة متمادية ترتكبها الطبقة السياسية، وأن النخبة المهيمنة، لم تتخذ بعد 3 سنوات على الانفجار الكارثي أي خطوة لكبح الانهيارات؟
كثيرة الأسئلة، ومثلها الاتهامات الجاهزة، و«سُدى ولحمة» الأحقاد التي تُروج، ذعر يسود «موالاة» النظام و«معارضته»، حيال رسالة صناديق الاقتراع، التي أوحت بأن المشهد السياسي، قابل لأن يتبدل جذرياً، ما سيطوي عقودَ احتكارِ القوى الطائفية مقاعد التشريع وتحاصصها كراسي الحكم ومقدرات البلد! لكل ذلك تفترض القراءة المتكاملة لما حملته الثورة، من فيض في قيم النزاهة والمواطنة والتمسك بالدستور، ورفض التلوث الأخلاقي والفساد السياسي، التأمل بأحداث العقدين الأخيرين. «17 تشرين» وصلت إلى كل جهات لبنان، واخترقت الـ«بيئات الآمنة»، ما أخرج «حزب الله» عن طوره، فاتهم وخوّن وألصق بالتشرينيين أقذع التهم، لأن مسارها شكل الوعد للبنانيين بقيام دولة القانون الحديثة، لاستعادة لبنان من الجحيم!
حدثان ميزا العقدين المنصرمين، الأول «انتفاضة الاستقلال» عام 2005 التي هزّت نظامين أمنيين في بيروت ودمشق وأخرجت جيش الاحتلال السوري. أما الثاني فكان ثورة «17 تشرين» 2019 التي أنجزت أول مصالحة تاريخية طوت الحرب الأهلية، وشهدت اكتشاف الناس ما يوحدهم، فتجاوزوا عقوداً من التحريض الطائفي، عندما عاشوا متجاورين في الأمكنة إنما في تنافر طائفي ومذهبي لتسود لغة: «نحن» و«هم»! فشكل لقاءهم الفارق عندما طالبوا الطبقة السياسية: «كلن يعني كلن» بحقوقهم وكراماتهم المنتهكة.
فاق الانفجار الشعبي الضخم يوم «14 آذار» 2005 التوقعات. التقت التقديرات على أن اليوم المشهود جمع مليونا ونصف المليون مواطن، فيما كان المنظمون يتوقعون الثلث فقط! أتوا شباباً ومن كل الأعمار رافعين علم الوطن، مطلبهم العدالة في دولة حديثة تحمي مواطنيها وتضمن تكافؤ الفرص، وطالبوا بجيش واحد، والأهم وقف انتهاك الدستور والقوانين، وتمسكوا بالحريات والعدالة الاجتماعية.
أخافت «انتفاضة الاستقلال» قياداتها الطائفية، فمُنِعَت من التحول إلى ثورة، فكان عقد «تسوية» داخلية تحفظ مصالح أطرافها. مع التحالف الرباعي الطائفي، الذي جمع الفريقين 8 و14 آذار، تم القفز فوق مصالح الناس والآمال التي علقوها على استعادة العمل بالدستور وقيام دولة القانون. أحدث الاتفاق صدمة هزت ثقة الوسط المسيحي وعزلت الجو الشيعي الرافض (سلبطة) «حزب الله»، وسيكون لهذا الأمر تداعيات سلبية على الفترة التي تلت عام 2005. رغم ذلك منح المقترعون قوى «14 أذار» أغلبية نيابية مرتين في عام 2005 و2009، لكن لم تتم أي محاولة للحكم باسم الأكثرية!
تم عمداً إجهاض «انتفاضة الاستقلال»، وكسر ميزان القوى الوطني الذي ظهّرته، عندما تم التلاقي بين «الخصوم»، ما رسّخ نظام المحاصصة الطائفي الزبائني، فتكرس الدستور مجرد وجهة نظر أو شماعة للفريق المتضرر. ودوما وُجِدَت جهات جاهزة لتبرير «التسوية» بالزعم أن النظام اللبناني بعد الحرب الأهلية قام على «توافق» الطوائف الرئيسية: المارونية والسنية والشيعية، وعملياً بين زعمائها، وروجوا أن غياب «التوافق» سيفجر الصراع الأهلي! استندت هذه المقولة إلى محاصصة بنيت على تقدير حجم أطراف المعادلة الطائفية، فأسقطت حقوق الناس ومصالح البلد، وفتحت الأبواب أمام تغول الدويلة وتعميم الفساد!
التقوا تحت سقف حكومي واحد، ووضعوا اليد على موارد الدولة وتحاصصوا السلطة. جرى ذلك تحت عناوين مضللة أبرزها حقوق الطوائف، وأداروا الظهر لاستيلاء «حزب الله» على المعابر البرية والمطار والمرفأ ورسوخ اقتصاده الموازي واختطافه الدولة ومصادرته قرارها.
وقبل أكثر من عقد على الثورة باشروا السطو على الودائع التي لامست 120 مليار دولار، لتغطية عجوزات الموازنات، واستشراء حالة زبائنية، إلى تغطية حصص الأطراف في مشاريع هدرت المليارات أولها الكهرباء مقابل صفر خدمات للناس! والحصيلة تسارع الإفلاسات واتساع البطالة وفقدان عشرات ألوف الكفاءات التي لم تجد أمامها من أفق سوى الهجرة. وراح البلد ينغلق نتيجة سياسات أملاها «الحزب»، بالأخص بعد «التسوية» الرئاسية، واتسعت عمليات الاقتلاع المبرمجة التي طالت شظاياها المال والاقتصاد والاجتماع وصولاً إلى الكيان!
لم تأتِ «17 تشرين» من فراغ. منظومة إجرامية مهدت لها الأرض، فحدث الانهيار الكبير لتندلع الثورة التي غطت أربع جهات لبنان. النقمة كانت عارمة على أحزاب وأطراف نظام المحاصصة، والانشطار كان عمودياً: أكثرية ساحقة مقابل طبقة سياسية ومريديها المقربين. ومن اللحظة الأولى رفع الشعار الأثير: «كلن يعني كلن»، يتحملون مسؤولية إذلال اللبنانيين بعد إفقارهم ونهب لبنان. وحددت بوصلة الثورة الاتجاه: استعادة الدولة المخطوفة واستعادة الدستور والسيادة، والممر الإجباري حكومة مستقلة عن المنظومة تعيد تكوين السلطة. ولم يغب عن التشرينيين أهمية بلورة ميزان قوى شعبي لمواجهة ميزان القوى الآخر بقيادة «حزب الله»، الذي تقدم الصفوف لحماية نظام المحاصصة معلنا لا لإسقاط البرلمان ومتمسكاً ببقاء عون في بعبدا.. ولاحقاً أكد التصويت العقابي الكثيف أن «الكتلة التاريخية» هي المشروع السياسي التشريني البديل!
3 سنوات بعد الثورة والانهيارات كرة ثلج متعاظمة وأولويات «معارضة» النظام و«موالاته» إجهاض الإنقاذ. توازياً توحدت المنظومة في انتهاك الدستور والتخلي عن السيادة والثروة للعدو، لتلميع صورتها خارجياً وتدعيم وضعها داخلياً وطي الإصلاح! ومع تهريب أموال المحظوظين برمجوا تدفيع الناس ثمن المنهبة عبر«هيركات» مُقنّع، فتعمق انهيار العملة وإفلاس الدولة واتساع البطالة وارتفاع التضخم وامتناع عن المحاسبة! لتتأكد استحالة أي إصلاح من الداخل، فهذه النظرية أثبتت فشلها أمام الامتيازات المتشابكة للمتسلطين، الذين تحكموا فأثروا، عندما نهبوا المقدرات العامة والخاصة وجوعوا الناس وعمّ الانهيار، ليظهروا صلابة في رفض أي إصلاح لأنه التهديد لوجودهم، لذا لا تغيير إلاّ من خارج الطبقة السياسية!
كسرت «17 تشرين» الخوف وأسقطت الترهيب والتطويع والاستيعاب وأطرها التنظيمية آتية. هي الأصل وهي هنا أصولية بالوفاء لآمال الناس صناعِها. تعرف أن الأهم من رئيس صوري، استعادة الدولة والقرار وإعادة البناء فيصبح السلاح اللاشرعي خردة، ولن تضيع بوصلة فرض التقاعد المبكر على متسلقيها!