بقلم - حنا صالح
لم تكن انتخابات الرئاسة اللبنانية في يومٍ من الأيام صناعة لبنانية. على الدوام كانت موضع تجاذبٍ خارجي. وعلى الدوام كان الدور اللبناني يتقزم زمن الأزمات، و«يتعملق» زمن الاسترخاء، وفي النهاية لم يكن قراراً محلياً، بقدر ما كان وصول الشخص المحظي إلى الرئاسة يعكس في شخصه توازنات وتقاطعات خارجية!
في منتصف عشرينات القرن الماضي، قبل الاستقلال، استدعى المندوب السامي الفرنسي أعيان لبنان للتداول بمن يكون رئيساً، وفي اليوم التالي للتشاور تم تعيين شارل دباس الذي لم يكن مدعواً للقاء! رئيس الاستقلال بشارة الخوري فاز نتيجة صراعٍ فرنسي - إنجليزي، في حين الرئيس الثاني للجمهورية كميل شمعون، مرشح «الجبهة الاشتراكية»، فاز نتيجة تقاطعات إنجليزية - سورية. حتى الرئيس فؤاد شهاب الذي يعود إلى عهده بناء دولة المؤسسات والعدالة والرعاية الاجتماعية، والتزام الدستور والقوانين، لم ينتخب نتيجة «ثورة» 1958، بقدر ما كان وصوله نتيجة تقاطع بين عبد الناصر والأميركيين.
وفي العام 1964 إثر رفض شهاب تعديل الدستور والبقاء في الرئاسة ولاية ثانية، قررت الأغلبية النيابية، المسماة «النهج»، انتخاب النائب الأمير عبد العزيز شهاب رئيساً للبلاد. فنام الأمير رئيساً وفي الصباح انتخبت الأغلبية شارل الحلو لرئاسة الجمهورية، بعد ليلٍ من الاتصالات المصرية والسورية والأميركية. وفي الذاكرة اللبنانية، أن البرلمان حسم رئاسة سليمان فرنجية عام 1970 بفارق صوت واحد عن منافسه إلياس سركيس، لكن الوقائع مغايرة لأنه ما كان ليفوز لولا أزمة «الميراج» وفضح جهاز «المكتب الثاني» محاولة روسية لاختطاف طائرة «الميراج»، فتدخل السفير الروسي لدى النائب كمال جنبلاط وطالبه بعدم انتخاب سركيس، فكان أن قسّم جنبلاط أصوات كتلته ما أحدث المفاجأة.
ما بعد العام 1975 حتى العام 2005 فرض النظام السوري المحتل الرؤساء تباعاً، إلا في العام 1982 عندما دخل المحتل الإسرائيلي على خط الانتخابات، فكان انتخاب بشير الجميل تحت حراسة الدبابات الإسرائيلية. وبعد خروج الجيش السوري، ووقوع شغور في الرئاسة، تمّ في اجتماع الدوحة برعاية عربية - دولية تسمية ميشال سليمان، في سابقة مثيرة لم تترك للبرلمان سوى الاتفاق على الاتفاق!
حدث الشغور الكبير في رئاسة الجمهورية في العام 2014 واستمر 30 شهراً، عندما عطل «حزب الله» نِصاب البرلمان حتى فرضه مرشحه الوحيد ميشال عون رئيساً يوم 31 أكتوبر (تشرين الأول) 2016. في ذلك اليوم، قالت النائبة ستريدا جعجع، إن الانتخاب صناعة لبنانية، ليتبين من البداية أنه في زمن توقيع الاتفاق النووي مع إيران، كان الانحياز الأميركي كاملاً لما سُمي «الخيار الإيراني»، فشكلت رئاسيات 2016 محطة جديدة في التعاطي الأميركي مع المنطقة، شبيهة بما جرى في العراق يوم أعلن الموفد الأميركي بول بريمر حل الجيش العراقي، ليتم تسليم العراق لأتباع نظام الملالي في إيران!
ما حدث في العام 2016 يستحق وقفة وتأنياً. فرغم أن الاتفاق النووي عرّض المصالح العربية للخطر، وزعزع استقرار دولها، تعاطت معه الأكثرية النيابية المناوئة بالمبدأ لـ«حزب الله» على أنه قدر المنطقة ولبنان. استسهلوا «نقل البندقية» من كتف إلى كتف، فشهد الناس «مشهدية معراب» بإعلان التحالف بين جعجع وعون على قاعدة انتخاب الأخير، ولاحقاً انضم سعد الحريري إلى ناخبي عون رغم معارضة فريقه الواسعة كما المعارضة الشعبية، وتبين أن الثمن صفقات ومحاصصات مع الفريق العوني ضمنت إسناد رئاسة الحكومة إلى الحريري. وعلى أرض الواقع أُنجزت التوافقات مع «حزب الله»، ذراع الهيمنة الإيرانية الذي تسلم مفاتيح البلد. فكان اختطاف الدولة وقرارها، والإمساك من الخلف بخيوط السلطة، وواقعياً وقوع رئاسة الجمهورية تحت الاحتلال بعدما بات الرئيس الفعلي هو الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله؛ الأمر الذي دفع البطريرك الماروني إلى المطالبة بتحرير الرئاسة، في حين كان الإيغال مستمراً في نهج اقتلاع البلد وجعله حربة ضد المنطقة، ومنصة تصدير الكبتاغون والتدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية!
قبل الذهاب إلى رئاسيات 2022، هناك الكثير من الأسئلة المطروحة ويمكن اختصارها بسؤال محوري عن انعدام تأثير القوى السياسية اللبنانية تاريخياً في أبرز استحقاقٍ دستوري، ألا وهو رئاسة الجمهورية؟ هل يعود ذلك للنظام الطائفي وارتباط الأطراف الطائفية بجهات خارجية فانعدم الوطني لصالح الطائفي؟ ربما ولا بد للدارسين المؤرخين من الإجابة عن هذه المسألة.
الأكيد أن كل الظروف المحيطة برئاسيات العام الحالي مغايرة لما كانت عليه في العام 2016. داخلياً تتم بعد الانهيار الكبير، في مرحلة تميزت بسيطرة «حزب الله» الكاملة، والفشل المريع الذي مثّله وجود عون في الرئاسة؛ ما تسبب في انفجار ثورة «17 تشرين» التي عرّت الطبقة السياسية وكشفت عن فسادها فأخلت الفضاء العام كمتهمة، لكنها لم تسقط ولم تحاسب رغم تصدع نظام المحاصصة الغنائمي. لكن ذلك أرغم «حزب الله» على تصدر الدفاع عن نظام الفساد، الذي مكّنه من التغول على الدولة واحتكار قرارها، وبات متعذراً عليه التهرب من المسؤولية عما ألحقه بلبنان وأهله.
لقد خسر «الحزب» أكثريته النيابية، مع فشل الكثير من حلفائه وإضعاف الآخرين، وبات غير قادر على الإملاء والفرض، وبين «حلفائه» ما «صنعه الحداد»، في حين تمثل الجديد بوصول 13 نائباً يعكسون الجو التشريني، هم نواب الثورة، وهم الأكثر ارتباطاً بنسيج البلد مناطق وشرائح وفئات. ورغم الوقت القصير الذي مرّ على انتخابهم فرضوا ممارسة سياسية لم تكن مألوفة لجهة الانسجام مع الدستور والقوانين. هم أمام تحدي ترشيح لرئاسة الجمهورية مقنع للمزاج الشعبي، محترم ومتجرد ودستوري قادر على القيام بدور المرجعية الوطنية والأخلاقية، لإفشال محاولات المتسلطين نسج «تسوية» ترضي بعض الخارج ومن ارتهنوا البلد للممانعة، ليستمر تسلط التحالف الذي يقوده «حزب الله»، باستبدال اسم سليمان فرنجية أو حتى جبران باسيل باسم ميشال عون، ويتم القفز مجدداً فوق مآسي الناس ومتطلبات انتشال البلد... وما يجري اليوم من شد وجذب رئاسي، بين القصر والسراي، على خلفية الصراع على الحصص الحكومية، معبّر عما بلغته الطبقة السياسية من انفصام وانحطاطٍ سياسي!
بالتوازي، تبدلت الظروف الإقليمية رغم تغول نظام الملالي. لكن لا «الخيار الإيراني» في أوجه مع فشل «فيينا»، ولم يعد العالم العربي في موقعه السابق، وآخر الأدلة قمم جدة التي انعقدت بمشاركة الرئيس الأميركي جو بايدن، وما أبرزته من اهتمام بمكانة لبنان ودعم سيادته واستقراره وأمنه واعتزام نجدة شعبه. الأكيد، أن الأفق الخارجي يشهد تبدلاً وهناك تغيير داخلي، ولو نسبياً، وباستنفار الناس واستعادتهم إلى الفعل السياسي ستتبلور «الكتلة التاريخية» كحالة شعبية فاعلة من دونها سيحل الشغور في الرئاسة وسيبقى الأمل بالتغيير معلقاً!