بقلم - حنا صالح
على مسافة أقل من 100 يوم على نهاية ولاية الرئيس عون، يكاد يكون الاهتمام بالاستحقاق الرئاسي منعدماً. ليس هناك ما يوحي بأن الاستحقاق الدستوري الأهم سيتم في موعده. لا شيء يذكّر بما كان يتم سابقاً. بعد إخراج جيش الاحتلال السوري في العام 2005 كان هناك من أعلن ترشحه من واشنطن، وآخر من باريس، ويتذكر المواطنون أنه في سبتمبر (أيلول) 2007 أعلن السياسي الراحل نسيب لحود ترشحه من خلال تقديمه «رؤية للجمهورية» أثارت أوسع الاهتمام. لكن السائد اليوم ركود سياسي، يوحي باحتمال ترحيل الاستحقاق الدستوري الأهم إلى أجلٍ غير مسمى. فللمرة الأولى ما من جهة سياسية، أو طامحٍ للرئاسة، تقدم من اللبنانيين برؤيته للبنان، ما بعد كوارث الانهيار في عهد الظلم والظلام والتبعية والارتهان!
لكن مهلاً، خلال رمضان الفائت، عشية الانتخابات النيابية، استضاف حسن نصر الله إلى مأدبة إفطار كلاً من سليمان فرنجية وجبران باسيل، أبرز المرشحين الممانعين لخلافة عون في رئاسة الجمهورية. ونتيجة ضغوط «حزب الله» على «حليفيه» لخلق حالة من الكيمياء بينهما، تناول البحث على ما أشيع مسألتين...
الأولى، مساهمة فرنجية كي يتمكن باسيل من الحفاظ على مقعده النيابي، وهذا ما حصل، فضمن باسيل مقعده، فيما كاد فرنجية يفقد تمثيله النيابي كلياً.
والثانية، حسم التوافق على أحدهما كمرشح يريده «الحزب»، رئيساً في القصر الجمهوري، لاستكمال مرحلة انتقالية لتكريس لبنان الممانع، وقطع الطريق على الرئيس الذي يحتاجه البلد لاستعادة دوره ومكانته.
يومها كان البلد ضحية ضخٍ إعلامي لإحباط الناس، سداه ولحمته، أن أغلبية «الحزب» النيابية سترتفع، وبإشارة منه سيتم إشغال مراكز السلطة، ولا ردّ لمن يرتئي. لذلك تردد أن نصر الله كان حاسماً لجهة ترئيس سليمان فرنجية (وفاء) لمواقف الأخير في العام 2016 ومجمل مسيرته الممانعة، وأنه استطرد في تفصيل المراكز فأبلغ باسيل أن زمنه مؤجل إلى رئاسيات العام 2028! ومما قيل أيضاً إن موافقة باسيل على ترئيس فرنجية تحتم تمكين الأخير من التحكم بإدارة السلطة التنفيذية!
لكن رياح 15 مايو (أيار) الانتخابية كسرت أشرعة «حزب الله» النيابية، فأفقدته أكثريته، كما أبعدت عن البرلمان بعض أبرز «حلفائه» من «ودائع» النظام السوري، فتراجع الحديث عن الاستحقاق الرئاسي، مع تراجع إمكانية «الحزب» على الفرض والإملاء، رغم تحكمه بقرار أقلية كبيرة متماسكة... لكن ذلك لم يشطب أصواتاً استمرت تلهج بالرئاسة والتزام الموعد الدستوري، وترشح معلومات، مفادها أن الرئيس بري سيدعو إلى جلسة انتخابية في الأسبوع الأول من سبتمبر عندما يتحول البرلمان إلى هيئة ناخبة.
على العموم، تسود حالة انتظارية قبل أن يتظهر موقف «حزب الله»، لأن الفارق، نوعياً، بين خيار ممانع مثل فرنجية أو باسيل، فتتمدد الحالة الراهنة في رئاسة الجمهورية، وبين الاضطرار إلى تسوية ما، فترجحت كفة التعطيل فالتأجيل والشغور الرئاسي! ولملء الوقت المستقطع، ها هو د. جعجع في خطوة أثارت الأسئلة، يمتدح إدارة قيادة الجيش، فيرشح القائد جوزيف عون للرئاسة، ويتم رمي اسم الوزير السابق جهاد أزعور، المدير في البنك الدولي، كاحتمال قد تدعم ترشحه جهات مالية وسياسية دولية!
ويغيب موقف نواب الثورة من الاستحقاق، فلا حديث عن البرنامج المرحلي المطلوب، ولا تداول في أي اسم، كما تغيب مواقف النواب المستقلين والمعارضين. القاسم المشترك بين الجميع تغييب الحديث عن البرنامج الإنقاذي المطلوب الذي يزيد من منسوب لبننة الاستحقاق، ويغيب التداول في الأسماء النزيهة المترفعة التي يوحي أصحابها بالثقة والشجاعة على القرار، والتي تملك كاريزما المرجعية السياسية والدستورية، وقبل كل شيء المرجعية الأخلاقية للاختيار، من بينها المرشح لخوض معركة الاستحقاق الدستوري الأهم.
عوداً على بدء، غداة الانتخابات النيابية، كشف النائب جميل السيد المستور، لجهة المخطط المشغول بحرفية عالية لبقاء عون في بعبدا! وخرج من لقائه مع عون ليقول بعدم جواز تسليم الرئاسة إلى حكومة تصريف أعمال، ويجزم أن الرئيس لن يسلم صلاحيات الرئاسة لحكومة منتقصة الصلاحية! حمل هذا الجزم تأكيداً أنه لن يتم انتخاب رئيس جديد (...)، لكن الرئاسة، وربما لمست في موقعٍ ما تحريضاً، خرجت عن الصمت ليعلن عون في أكثر من مناسبة أنه لن يبقى دقيقة واحدة في القصر الجمهوري بعد 31 أكتوبر (تشرين الأول) 2022.
في بلدٍ طبيعي لا يطرح هذا الموضوع، لكان القيمون على القصر قد أوعزوا بـ«توضيب» الحقائب وترتيب مكان إقامة الرئيس الذي سيحمل قريباً لقب الرئيس السابق. لكن نحن في لبنان، الذي عرف بعد العام 2005 حتى تاريخه، نحو 6 سنوات من الشغور الرئاسي والفراغ في السلطة التنفيذية. ولأن السوابق كثيرة ومعروفة على الدوام، ولم يكن لها يوماً مبرر دستوري ولا قانوني، بل شكل فرضها أحد وجوه أزمات نظام المحاصصة الطائفي، الذي ما استمر إلا نتيجة البدع والأعراف المبتكرة والاستناد إلى قوة الأمر الواقع، الذي تمثله دويلة «حزب الله»، التي اختطفت الدولة بالسلاح، وانتهكت مصالح البلد وحقوق أبنائه!
في المحصلة التكرار وارد، والعنوان «لن نسلم للفراغ»، فيه تجاهل أن الفراغ استوطن الرئاسة من لحظة الاتفاق المفروض على التوافق الذي أوصل عون إلى سدة الرئاسة! والحديث الرئاسي عن عدم البقاء دقيقة واحدة إثر نهاية الولاية، تسقطه الوقائع، معطوفة على تراجع القدرة لدى «حزب الله» على الفرض، إلا إذا قرر المغامرة بالذهاب إلى انقلاب ميليشياوي، وهذا دونه الكثير!
ويتتالى افتعال الأحداث المثيرة، ولا شيء صدفة. «الردح الرئاسي» عن الصلاحيات طغى على أولوية التأليف، وساد تقاذف المسؤولية عن شمول العجز كل الصعد، وانقطع التواصل بين بعبدا والسراي، وحلّت خصومة تُذكيها بيانات المكاتب الإعلامية. وبلغ الاستثمار السلطوي الذروة، عندما اقتحمت القاضية غادة عون، رمز «القضاء العوني»، مصرف لبنان لتوقيف الحاكم سلامة، ترافقها وحدات من «أمن الدولة»، الجهاز الذي يتحرك بإشارة من القصر، وبدل الاستقتال لتوقيف سلامة في محاولة لحصر الكبائر والمنهبة بشخصه، تُظهر الانقسام القضائي والأمني. تلا ذلك تفجر قضية النائب البطريركي على القدس والأراضي الفلسطينية المقدسة والأردن، عندما تم توقيفه عدة ساعات على معبر الناقورة والتحقيق معه، ما بدا صداماً مع الفاتيكان والكنيسة المارونية، وبدا الهدف تفجير الغرائز الطائفية رغم مسارعة القصر إلى محاولة التنصل واللفلفة!
الأرجح أن الانفلات سيتسع، لتعم الفوضى والعجز، لإلهاء الناس عن أوجاعهم وحرف أنظارهم عن جرائم المتسلطين! فيتجهز المسرح لمنع الاستحقاق الدستوري وفرض الشغور الرئاسي، ما قد يمنح «حزب الله» الوقت للعودة إلى لعبة «التفاهم» على مرشح واحد لفرضه، أياً كان الثمن، وإلا انتظروا الأسوأ!