بقلم:حنا صالح
بين ضربة أوكرانية على مركزٍ لمجندين روس قتلت عدداً كبيراً منهم، وردّ روسي على مركز تجمع للجيش الأوكراني قالت موسكو إنه أودى بحياة 600 جندي (وهو ما نفته كييف) ... تستمر آلة الحرب في تنفيذ أضخم مقتلة في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. مدن باتت أثراً بعد عين، وبلدات يتم اقتلاعها وملايين الأوكرانيين إلى المنافي، وتحرث القنابل الثقيلة حقول القمح والذرة، وكل المعمورة تدفع الثمن تضخماً وانكماشاً اقتصادياً وبطالة، وتتراجع موجودات السلة الغذائية خصوصاً القمح، وترتفع في جهات العالم الأربع أرقام الموازنات العسكرية وإنتاج الأسلحة!
الأكيد أن هذه الحرب فاجأت الكثيرين في أوروبا وحول العالم، لكن من المستحيل القول إنها فاجأت صناع السياسة الكبار. وبعيداً عن «المبررات» التي ساقها الرئيس الروسي واعتزامه تصحيح «أخطاء تاريخية» ارتكبها أسلافه، من لينين إلى ستالين وخروتشوف، فإن كل ما يرشح من مواقف بشأنها وأسرار أدت إليها، تؤكد أنه لم يكن ممكناً تفاديها، وبمعزل عما ستؤول إليه ويترتب عليها أكبر الأثمان!
الزيارات إلى موسكو عشية إطلاق روسيا ما سمتها «العملية الخاصة» لحماية الدونباس، وخصوصاً زيارات جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي الأميركي، والمستشار الألماني شولتس والرئيس الفرنسي ماكرون، لم تبدل حرفاً في القرار الروسي الذي كان ينطلق من رفضٍ قاطع للتخلي عن اتفاقيات مينسك للعام 2014 المتعلقة بشرق أوكرانيا. اتفاقيات ترى موسكو أن كييف تنصلت من تنفيذها، ولم يظهر شولتس وماكرون ما يعدّه الكرملين متوافقاً مع الرؤية الروسية، خصوصاً أن ألمانيا وفرنسا قدمتا في العام 2014 الضمانة لتنفيذ تلك الاتفاقيات!
على مسافة شهر ونيف من مرور سنة على بدء هذه الحرب، تكشفت جوانب عديدة لها، أولها أن عواصم الناتو لم تتوقع أن تُقدِم روسيا على عملٍ عسكري بهذا الحجم، فلم تتوقف عند الإثارة الروسية لاتفاقيات مينسك. لكن قرار بوتين – وفق سكوت ريتر ضابط المخابرات الأميركي المتقاعد – «صدم الدول الغربية... ومكّنه من إمساك المبادرة الاستراتيجية، عندما استبق خططاً كان على كييف تنفيذها لاستعادة الدونباس»! فهل إن عدم التوقع عجّل بكل الخراب والموت الذي يتابعه العالم على الشاشات؟ ولماذا لم يتم التوقف أمام مطالب قاسية على كييف، لكنها لا تقارن مطلقاً بما آل إليه الوضع في أوكرانيا وروسيا وأوروبا، التي باتت أكثر دولها تتخذ إجراءات التخلي عن زمن الرفاهية، كما أعلن الرئيس ماكرون!
صورة مغايرة رسمها البروفسور الإيطالي ليوناردو ديني (صحيفة «أتلانتيكو») عندما رأى «إنها الحرب العالمية الثالثة تجري هنا في أوكرانيا... لكن البعض لا يصدق حدوثها»! ويتوقف عند متغيرات سياسية وليضيف أن المنحى قد يوصل «إلى عالم متعدد الأقطاب»، وأن هذه الحرب «قد تقلب معاهدة يالطا رأساً على عقب»!
لقد استهلكت هذه الحرب المفتوحة، أجزاء أساسية من الترسانات العسكرية لروسيا وأميركا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا وغيرها، وابتلعت مليارات الدولارات وتكاد تبدل المشهد الأوكراني كاملاً، وقد يكون الدافع إليها ما كشفه الجنرال جيمس بيرمن (قائد مشاة البحرية الأميركية في اليابان لـ«فاينانشيال تايمز») الذي قال «إن أميركا وحلفاءها في آسيا يقومون بمحاكاة الأسس التي مكّنت الدول الغربية من دعم مقاومة أوكرانيا لروسيا»؟ ويعلن، أن «مستوى النجاح الذي حققناه في أوكرانيا يعود إلى أنه بعد تحركات روسيا في عامي 2014 و2015 جرى الاستعداد للصراع في المستقبل». ويكشف، عن أن الاستعدادات شملت «تدريب الأوكرانيين وتخزيناً مسبقاً للإمدادات، وتحديد المواقع التي يمكن للغرب من خلالها تقديم الدعم واستدامة العمليات»؟!
الأمر الأكيد، أن اتفاقيات مينسك كانت ستكون على أوكرانيا أقسى من الاتفاقيات التي فرضت على جورجيا في العام 2008. لكن السؤال المطروح ألم تكن الاتفاقيات لو نُفِّذت ستحافظ على وحدة أوكرانيا مع وضع خاص لمناطق الشرق، لو التزمت بها كييف بعد الانقلاب على يانكوفيتش في العام 2015؟ ومن بينها سحب الأسلحة الثقيلة من خطوط التماس التي نشأت، وعدم التعرض للناطقين باللغة الروسية وتعدادهم بالملايين!
طبعاً متعذر الجواب، لكن أقله كان ينبغي أن تُحترم تلك الاتفاقيات، لا سيما من جانب الدول الضامنة، التي وفق تصريحات جديدة للسيدة أنجيلا ميركل المستشارة السابقة لألمانيا والرئيس الفرنسي السابق فرنسوا هولاند، فإن تلك الاتفاقيات لم توضع لكي تنفذ؛ لذلك كل المناشدات لروسيا ورئيسها لم تغير أنملة من منحى الحرب الروسية على أوكرانيا التي استهدفت البشر والحجر، وأصابت أوروبا ودول العالم بكوارث، وهي لم تتعاف بعد من جائحة «كوفيد - 19»!
قالت المستشارة ميركل، إن اتفاقيات مينسك كانت تهدف إلى «منح كييف الوقت الكافي لتعزيز قدراتها العسكرية» (...) ورأت أن هذه الاتفاقيات «لم تنهِ الأزمة في شرق أوكرانيا، إلا أنها جمدتها لفترة من الزمن»؛ كون «الناتو لم يكن قادراً في تلك الفترة على إمداد أوكرانيا بالسلاح بالوتيرة التي يقدمها اليوم»! وأعقبها الرئيس هولاند بالإعلان، أن الاتفاقيات «أتاحت لأوكرانيا تعزيز قدراتها العسكرية، وأصبح الجيش الأوكراني مختلفاً تماماً»!
صادم حديث ميركل وهولاند، لكنه بالنهاية يعزز كل السرديات التي ساقها الجانب الروسي، من وجود استهداف لروسيا من جانب الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي؛ ما يعني أن الحرب كانت ستقع! فبادرت موسكو إلى عمل عسكري استباقي، وانتزعت المبادرة لإفهام الآخرين عقم وضع الاتحاد الروسي أمام لغة القوة.
صعب توقع ما ستؤول إليه الحرب والنتائج الكارثية التي ستسفر عنها، ولا يبدو أن معجزة ما ممكنة لوقفها في الأفق القريب. إنها حرب عالمية ثالثة بين روسيا والناتو على الأرض الأوكرانية التي استبيحت وتحولت حقول موت وتجريب للأسلحة. كما أنها الحرب التي وضعت أوروبا أمام استحقاق آخر يعادل انعطافاً تاريخياً، يفترض عسكرة وتعزيز البنى التحتية وخطوات دفاع مشترك... فمن الواضح أن كل الأحلام الوردية لما بعد سقوط جدار برلين أصبحت من الماضي. لكن العسكرة وهي ضرورية، غير كافية من دون شفافية أوروبية، تكون الأساس لإدارة الخلافات في المستقبل.
على الطريق لمثل هذا التحول، متى وقفت الحرب، من سيعيد بناء أوكرانيا وبأي إمكانات وقدرات؟ وهل هو كافٍ في هذا القرن لاحتلال موقع القطب العالمي – النموذج، الاكتفاء بتبلور حالة قيصرية «إسبارطية»!