بقلم - حنا صالح
السؤال ليس جديداً، لكن الجواب عليه ملحٌّ أكثر من أي وقتٍ مضى. ويعاد طرحه رغم مرور أكثر من ألف يوم على «ثورة تشرين»، ونحو العامين على جريمة تفجير مرفأ بيروت يوم 4 أغسطس (آب) 2020، وقرابة 75 يوماً على انتخابات 15 مايو (أيار). وهي الانتخابات الأولى بعد الثورة، التي تثبت حضوراً مميزاً للاعب سياسي جديد هو المواطن اللبناني الذي غادر مقاعد المتفرجين واقترع عقابياً فأصاب أطراف نظام المحاصصة الطائفي بأعطاب أساسية، بإسقاطه أكثرية «حزب الله» النيابية، وشطب الحضور الفاعل لودائع النظام السوري، ومنع أي طرفٍ من الاستحواذ على أكثرية نيابية.
السؤال مطروح، لأن مافيا الحكم مصرّة على القفز فوق الانهيارات وانكسارات الناس ووجعها، كما على تجاهل ما عبّرت عنه الثورة من حاجة ماسة لتغيير حقيقي، كانت رسائل الانتخابات النيابية شديدة الوضوح بشأنه. كما أنها المرة الأولى التي يتمسك بها المواطن العادي، قبل أهل الضحايا والمتضررين المباشرين، بمعرفة الحقيقة بشأن وسادة الموت في المرفأ، مَن المسؤول؟ ومن هم الشركاء؟ ولماذا كانت التغطية والتخلي عن مسؤولية حماية الأرواح والعاصمة؟ ويريد المحاسبة والعدالة ليس للضحايا الذين لن يعودوا فقط بل لكل لبنان لأنه لا أمن ولا استقرار ولا قيام من دون عدالة!
ما حصل بعد الانتخابات العامة، تَمثّل في عودة أطراف نظام المحاصصة الغنائمي، الذي يقوده «حزب الله»، إلى استنساخ ممارساتهم السابقة بدءاً من إعادة تكليف نجيب ميقاتي تشكيل أول حكومة بعد الانتخابات، مع تغنّي بعضهم بتجربته ورؤيته، وأنه الوحيد القادر على «فك السحر» وأن «المن والسلوى» سيكون بانتظار الناس الذين سيستعيدون تأمين الـ500 دولار التي سلبها من المواطنين يوم تأسيس الهاتف النقال!
يتم تكليف مَن رأَسَ قبل الانتخابات حكومة «الثورة المضادة»، التي رفعت الدعم من دون توفير البدائل، ورفضت حماية الحقوق وبددت تعب الناس عندما فرضت «هيركات» على صغار المودعين تجاوز 75 في المائة، وما زعمت أنها خطة تعافٍ مالي واقتصادي، انكشفت عن فضيحة محورها حماية الناهبين في الكارتل المصرفي - السياسي، وتمكينهم من استعادة السيطرة بأموال منهوبة تمكنهم من الاستيلاء على ملكيات الدولة... في المقابل تفرج على استباحة الحدود، وتغوّل كارتل التهريب المدعوم من الدويلة، وتغاضى عن إعادة تصدير المواد المدعومة ففُقدت حبة الدواء ووصل الناس إلى زمنٍ عزّ فيه الرغيف، والأهم فوّت على لبنان فرصة أتاحتها الدول الخليجية لاعتماد سياسة بديلة تؤسس لانتشال البلد الذي أوصلوه إلى الجحيم!
ومجدداً شكلت الممارسات النيابية طعنة لآمال المواطنين. التقت القوى النيابية على رفض مشروع قانون، دعمه نواب الثورة ويقضي بتثبيت الحدود البحرية عند النقطة 29، ورفضوا تعديل المرسوم الخطير (6433) الذي بدد حقوق لبنان بثروته الغازيّة والنفطية وقدمها لإسرائيل. وكان طلب التعديل قد رفعته حكومة حسان دياب وحمل توقيعه والوزراء، لكن القصر احتجزه، ليتبين وجود رهانات عدة أطراف على مقايضة المرسوم بالعقوبات الأميركية!
كما أن الأمر البالغ الخطورة تمثَّل بإقدام البرلمان على إقرار نسخة معدَّلة مشوَّهة من قانون رفع السرّية المصرفية، نُزع عنها المفعول الرجعيّ ما يعطّل فرصة مهمة للإصلاح والمساءلة بالعودة إلى المحاسبة على الجرائم المالية المرتكَبة: نهب أكثر من 100 مليار دولار، هي ودائع للناس وجنى أعمار أكثر من مليون ونصف المليون حساب! كذلك أسقط العجلة عن اقتراح قانون تعويض ضحايا «ثورة تشرين»، ومعروف أن «بلطجية المجلس»، وهم ميليشيا لها تنظيم خاص خارج الأسلاك الأمنية، نفّذوا التعديات الدامية ضد المتظاهرين السلميين وتسبب رصاصهم المطاطي في اقتلاع عيون أكثر من 100 شاب، بقيت هذه الجرائم خارج أي تحقيق! وكان البرلمان قد عيّن أعضاء المجلس الوهمي «لمحاكمة الرؤساء والوزراء»، الذي اُخترعَ كمحكمة خاصة لحماية «الكبار» من أي ملاحقة، رغم الادعاء على بعضهم بجناية «القصد الاحتمالي» بالقتل في جريمة المرفأ، في تمسكٍ سافرٍ بالحصانات وقانون الإفلات من العقاب!
لقد صار واضحاً أن الجهة المسؤولة عن إذلال الناس في طوابير الخبز بعد طوابير المحروقات والدواء، هم وراء قانون يحمي مرتكبي الجرائم المالية. بل إن الذين سنّوا قانون العفو عن جرائم الحرب الأهلية، كي تخفي المقابر الجماعية إجرام الذين انتقلوا من خلف المتاريس إلى مقاعد التسلط، يحوّلون قانون رفع السرية المصرفية إلى قانون عفو عن الجرائم المالية لإخفاء مسؤوليتهم عن الجرائم التي حوّلت لبنان إلى بلدٍ يتسول وجبات الغذاء لجيشه، نقل المواطن من زمن البحبوحة إلى زمن العوز والجوع مع تدمير الطبقة الوسطى!
يأفل عهد ميشال عون بعد 92 يوماً، لكن المتبقي سلبيات كبيرة، فقد استحوذ «حزب الله» على صلاحيات الرئاسة، ومع هذه القيادة استقر ترتيب لبنان بفارق 6 مراتب عن المركز الأخير لـ«أسوأ» نوعية حياة، وبيروت «الأغلى» بفارق 4.35 نقطة عن نيويورك كوحدة قياس. لقد تعرض لبنان لأكبر عملية تجريف استهدفت مؤسساته وتدمير موقعه وقتل معناه... ومن العبث الرهان على تغيير من جانب الذين غطوا اختطاف «حزب الله» للدولة، وتعاموا عن جعل لبنان منصة لتصدير السموم، بعدما كان منصة إبداع في أكثر المجالات الإنسانية، وثروته النوعية وفائض قوته، ما حققه من مستوى علمي لأبنائه... ويتم تجاهل هذه الحقائق لأن «حزباً» يزعم امتلاك تفويض إلهي بالحكم وتالياً التصرف كما يشاء وكيفية التفكير والسلوك!
صار من نافل القول إن إحداث التغيير مستحيل من دون بلورة بديل سياسي قادر ومسؤول على اجتراحه، والاستفادة من متغيرات تقرع بقوة أبواب المنطقة. فمن إعادة تكليف ميقاتي، الذي يواجه مساءلة قضائية دولية بتهم الإثراء غير المشروع، إلى الرهانات على تجديد نظام المحاصصة، إلى ما جرى في البرلمان من استخفافٍ برغبات عميقة عبّر عنها مئات ألوف المواطنين في صناديق الاقتراع... فإن التغيير متعذر مع قوى سياسية تشاركت السلطة وجنة الحكومات التي أوصلت البلد إلى القاع... مثل رمي العبء الكبير على نواب الثورة وحدهم.
التغيير مسار يفترض البدء مع الناس، والبديل السياسي ليس مستحيلاً، وكما أن «تفاحة (غيفارا) لن تسقط عندما تنضج، بل على أصحاب المصلحة جعلها تسقط»، فالأمر يتطلب تفكيراً من «خارج الصندوق»، بالذهاب إلى العمل السياسي الحزبي الجديد الذي أكدت حتميته «ثورة تشرين»، وأكد عليه حق لبنان بالعدالة أمام فجورهم في السعي لإقفال التحقيق في جريمة المرفأ، وأثبت مئات ألوف اللبنانيين جهوزيتهم عندما استرجعوا أصواتهم وعاقبوا الطبقة السياسية في الانتخابات... هنا بالضبط يرتقي أداء نواب الثورة وفعلهم.