بقلم: حنا صالح
94 يوماً هي الفترة الزمنية الفاصلة عن موعد انتخابات برلمان 2022. إنه الاستحقاق الأبرز الذي يواجه لبنان، في أحد أخطر المنعطفات التي عرفها منذ الاستقلال. هذا إن جرت الانتخابات، ولم يفرض «حزب الله» تعطيلها، ستجري بين السلطة بكل تلاوينها والمعارضة الناشئة رغم صعوباتها الداخلية، التي رفضت الدولة - المزرعة وتمسكت باستعادة الدستور والقرار الوطني والقضاء المستقل وحماية الرغيف.
ستكون الانتخابات الأولى في تاريخ لبنان، بين متسلطين ناهبين شركاء في نظام المحاصصة الطائفي الغنائمي من جهة، ومعارضة تنتمي لثورة «17 تشرين»، لتدور المواجهة بين من ارتهن البلد وغطى عملية اقتلاعه، ومقاومين حقيقيين سلميين، هم الجغرافيا البشرية للبنان وامتدادها في المغتربات، أولويتهم استعادة الدولة المخطوفة بالسلاح والفساد والطائفية. والأكيد ستكون الانتخابات الأقسى والأصعب والأوضح بكل المقاييس، كونها تتم في قلب انهيارات عاصفة متسارعة حولت لبنان إلى أرضٍ محروقة غير صالحة للعيش، محروسة بالتسلط الفئوي المسلح الذي يسخّر مقدرات السلطة لحماية استئثاره.
نكب لبنان، بتحالف مافياوي ميليشياوي، استأثر بالسلطة منذ عام 90 وفتت الدولة وحول اللبنانيين إلى شعبٍ متسول، بعدما نهب البلاد وجنى أعمار الناس وغطى استباحة الحدود والتهريب لتمويل الدويلة.
ولأن الخطر وجودي ويمس الكيان، دعا مجلس الأمن الدولي إلى احترام الاستحقاق «وإجراء انتخابات حرة ونزيهة وشفافة وشاملة»، وهو الأمر الذي شددت عليه مبادرة الفرصة الأخيرة التي حملها وزير خارجية الكويت وقوبلت بالتذاكي. كذلك كانت محاور لقاءات وزير خارجية الفاتيكان في بيروت ريتشارد بول غالاغيرر، الذي نقل خشية البابا فرنسيس: «ألّا يكون مستقبلُ هذا الوطن مضموناً» ما يحتم منع ترك لبنان ورقة تتلاعب بها الأقدار... في خلفية هذه المواقف قلقٌ من الضخ السياسي والإعلامي المنظم الذي يرمي إلى تسخيف الانتخابات والتقليل من أهميتها وجدواها، لكنه يقرُّ بالتوجس مما يمكن أن تبوح به صناديق الاقتراع، فيسعى إلى تفخيخ الرأي العام بمعطيات ملغومة، بالزعم أنها «مسلّمات» استناداً إلى «فلاسفة» بورصة الإحصاءات علّ ذلك يعمق حالات اليأس ويغطي على دخول الناس كلاعب سياسي جديد في المواجهة.
وبمعزل عما يروّج ويعوزه التدقيق، من أن «حزب الله» مرتاح إلى وضعه الذاتي وزخمه الشعبي، فالأكيد أنه مع دفع 82 في المائة من اللبنانيين إلى حدود خط الفقر وتحته، وتفاقم الانهيارات، وتداعيات جريمة تفجير المرفأ، وأمام أسوأ موجة هجرة للشباب والنخب وهم ثروة لبنان الحقيقية، فإن القلق مقيم خصوصاً حيال تراجع «الحلفاء» وبالأخص التيار البرتقالي، الذي تنتظره خسارة فادحة، فيخسر «الحزب» الغطاء المسيحي الذي وفّره للسلاح، لإرسال فرق المسلحين الجوالة تعتدي على شعوب المنطقة وكالة عن حكام طهران... ويخسر فرصة إطلاق يده لـ«اكتشاف» رئيس يكون «عون الثاني» فلم السماح بالانتخابات؟
الأمر الأكيد أن حجر الرحى في معركة استعادة لبنان، وضمان الوجود وحماية المستقبل، يقع أولاً وقبل أي تفكير آخر على عاتق اللبنانيين وعلى مسؤوليتهم. إنهم الجهة القادرة شعبياً وسلمياً على عزل أدوات الخارج، وإن امتلكوا 100 ألف صاروخ، فلم ترد صواريخهم العوز والمجاعة، ولم يمنع التهديد بـ100 ألف مسلح، الصقيع عن البيوت المشلوحة بالعتم في أطراف لبنان كما في أحياء الصفيح حول المدن وداخلها.
لقد أدخلت «17 تشرين» المواطنين إلى الشأن السياسي، وأدخلت لغة ومفردات وتعابير، وأصبحت الأولويات مختلفة في التداول؛ من الشأن المالي والاقتصادي إلى الفساد المجسد بنظام المحاصصة الغنائمي، ولا تقف هذه اللغة عند كشف مخاطر الاقتصاد الموازي والتهريب المحمي كشكلٍ من أشكال نقل الثروة إلى الخارج... يقابل ذلك تكلس طبقة سياسية عجزت عن أي مبادرة ولو جزئية تخدم الناس... لكنهم لا يتوانون عن الإكثار من الثرثرة الفارغة عن الإصلاح ومكافحة الفساد (...) بالتوازي تطرح القوى «التشرينية» برامج ملموسة من شأنها أن تنقل لبنان من حالٍ إلى حال، لأنها تحاكي مصالح البلاد وحقوق أهلها والفئات الشابة خصوصاً، فتقدم للناس خياراً بديلاً يمنح المقترعين الفرصة لأن يتفحصوا الطبيعة العميقة للقوى الجديدة التي رسمت سقفاً سياسياً هو استرجاع الدولة والقرار المستقل، وملاقاة اللبنانيين بحتمية قيام الدولة الحديثة العلمانية التي تحمي الناس وتؤمّن حقوقهم كمواطنين لأي طائفة انتموا.
لافتة ومبهرة العينات «التشرينية» التي أطلقت حملاتها، إنْ من حيث المشاركة الشبابية والشعبية أو من حيث البرامج. فلقاء «قوى التغيير والثورة» في عكار اعتبر المنطلق «استعادة الدولة المخطوفة بالسلاح»، ورفض «دولة المزرعة ونظام المحاصصة الغنائمي واستتباع لبنان»، فيما لقاء ائتلاف «سهلنا والجبل» في البقاع الغربي وراشيا تمسك بـ«حصر السلاح بأيدي الشرعية اللبنانية... للدفاع عن سيادة الدولة وسلامة أراضيها»، وأعلن ائتلاف «بيروت تقاوم» مقاومة «حكم الميليشيات» و«من فجّر بيروت»، لأن العاصمة التي خسرت سحرها سبق وقادت تحريرها من الاحتلال الصهيوني، وترفض «السلاح غير الشرعي واستخدامه بالتلاعب في السلم الأهلي عند أي استحقاق مهم».
اللغة «التشرينية» التي عبّر عنها كذلك ائتلاف «شمالنا» في الأقضية المسيحية الأربعة، التقت كلها على أن الانتخابات محطة مهمة وليست الهدف، ولا وجود لمشاريع خلق زعامات جديدة بل رفض بقاء صناعة قرار السلطة التشريعية خارج مجلس النواب، لتشدد «سهلنا والجبل» تحميل الطبقة السياسية المستقوية بالسلاح الميليشياوي مسؤولية الانهيارات والمآسي، فيما «قوى التغيير والثورة» في عكار حددت الأهداف بـ«دولة الحق والقانون والمؤسسات وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية وإنهاء الامتيازات» استناداً إلى ثقافة المحاسبة وآلياتها... وقدم ائتلاف «بيروت تقاوم»، حماية الحريات وتأمين الرعاية الاجتماعية بضمان حق التعليم والطبابة والسكن، واسترجاع الأموال، إلى العدالة في جريمة تفجير المرفأ وتحقيق استقلالية القضاء، وصولاً إلى التأكيد على حلِّ الميليشيات ورفض ترهيب الحياة السياسية.
صدّعت «17 تشرين» الطبقة السياسية، واليوم تلمُّ البلد الذي «شلعته» القوى الطائفية إلى كانتونات، فتقدم محطة الانتخابات فرصة بدءِ بلورة البديل السياسي، ليكون ممكناً تغيير الواقع السيئ وليس التسليم به. هذه القوى ليست انتحارية وترفض التلطي خلف مقولة اعتبار السلاح قضية إقليمية، فذلك لا يعفي أصحاب هذه النظرية من المسؤولية، كما ترفض جعل «معايير الوطنية» التبعية لنظام الملالي، وتدرك أن الأكثرية اللبنانية لن ترضخ لمخطط جعل لبنان جزءاً من مشروع «ولاية الفقيه» المذهبي في القرن الـ21! أما الحديث عن استمرارية «المقاومة»، فمنذ عام 2000 يحتفل لبنان سنوياً بالتحرير يوم 25 مايو (أيار) وهذا الاستثناء ما كان ليبقى لولا التواطؤ السياسي والترهيب فالمقايضات (...) لكل ذلك الانتخابات في خطر.