بقلم: حنا صالح
أمام حلقة من البحاثة، وصف الموفد الفرنسي دوكان تعاطي الطبقة السياسية اللبنانية مع الانهيار المالي الكبير، كما الاقتصادي والاجتماعي، باللامبالاة، وكأن الأمر يحدث في بلدٍ آخر. نبّه محاوريه إلى أن السقف الزمني ليس مفتوحاً، هناك مهلة 3 أشهر لبلورة اتفاقٍ مع صندوق النقد، ومن دون ذلك سيترك لبنان وحيداً ولن يتجاوز الاهتمام الدولي به بعض الجوانب الإنسانية كإمداده بجزءٍ من الأدوية والمواد الغذائية!
زيارة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إلى بيروت حملت إلى البلد المحاصر من مافيا متسلطة رهنته إلى محور الممانعة، ما تبقى من اهتمامٍ دولي بلبنان، وإرادة دولية بدعم الجهود لاستعادته دوره ومكانته. طبعاً، إن لبنان مدرج دولياً على لائحة برنامج الأمم المتحدة الغذائي والإنساني، مع تمييز متعلق بالجيش والمؤسسات العسكرية والأمنية، وهذا ما تم التشديد عليه، ورغم ذلك فإن الرهانات الدولية كبيرة أن بوسع البلد الصغير النهوض.
كبح الانهيار واستعادة النهوض يتطلب تغييراً في المسار، وقد حاول الزائر الأممي استكشاف ذلك؛ لذا قرّع المتسلطين وحثّ على اتخاذ خطوات تفرمل السقوط، وتولي الأهمية لمصالح المواطنين، كما حث على احترام القانون والقضاء والتزام الشفافية في جريمة تفجير المرفأ. وفيما كان ينوه بتعهدات أطلقها نجيب ميقاتي رئيس الحكومة المعطلة، باتجاه التفاوض مع صندوق النقد كما التزام الانتخابات في موعدها، بلغه الجواب الحقيقي والشافي من المافيا المتحكمة التي وضعت اللبنانيين بين خياري الموت أو الهجرة!
الجواب حملته الصفقة الفضائحية – وصمة العار، التي أدارها «حزب الله»، وتقوم على مقايضة حق المغتربين بالاقتراع كرمى لمطالب صهر العهد باسيل، مقابل «قبع» قاضي التحقيق العدلي في جريمة المرفأ، كرمى لمطلب حسن نصر الله منذ أشهر، الذي يبذل رئيس مجلس النواب نبيه بري الجهود لتحقيقه حماية للحصانات، وتكريساً لقانون الإفلات من العقاب! أي ما من أمر يتقدم أولويات المتسلطين في حماية مصالحهم، وديمومة تسلطهم، وتثبيت نظام المحاصصة الغنائمي! ولا يغير شيئاً أن ميقاتي أسقط الصفقة، فسقط الطعن وسيقترع المغتربون وتفرمل آنياً إبعاد المحقق العدلي؛ فالأمر ليس مسألة مبدئية، بقدر ما أن فجاجة الصفقة استخفت بموقع رئاسة الحكومة، وهددت ميقاتي بخسارة فادحة بعدما كان طرفاً في اتصالٍ مع ولي العهد السعودي والرئيس الفرنسي ماكرون وتبنى «إعلان جدة»، ووقف وراء قرار إبعاد جماعة «الوفاق» لتطاولهم على مملكة البحرين.
يتردد أن التحقيق في تفجير المرفأ، رغم سريته ونزاهته، ربما ينحو إلى ما لا يريده «حزب الله» من احتمال تحميله المسؤولية عن شحنة الموت، أي المسؤولية عن التسبب في ترميد ثلث بيروت! وبالمقابل توجس باسيل من حجم تصويت المغتربين العقابي ضد تياره، وخشية «حزب الله» فقدان أكثريته البرلمانية، هو ما رتب مشروعاً تضمن انقلاباً على القضاء لإحكام القبضة السياسية عليه، وتطويق انتفاضة القضاة التي حملت تباشير فرض استقلالية السلطة القضائية بالممارسة.
كان واضحاً أمام غوتيريش، الذي وصف حال لبنان بأنه «يفطر القلب ويجب القيام بإصلاحات جوهرية»، أن ما يدور إمعان في التنكر للدستور، وإهانة للمؤسسات، وتعدٍ سافر على المجلس الدستوري الذي حولوه إلى «شيخ صلح»، وانتقاص كبير من هيبة الدولة. فالجهات المتسلطة وهي المستفيدة من معاناة المواطنين، وأن شلّ المؤسسات إحدى أدوات تحكمها بعد إفساد الحياة السياسية بقوانين «غب الطلب»، كانت الوجه الآخر لقانون العفو عن جرائم الحرب، الذي مكّن تسلط التحالف المافياوي من الإمساك بخناق المواطنين! وتكرس ما يتردد على غير نطاق من أن لبنان تحول إلى جثة تنتظر الاتفاق على موعد الدفن!
الصورة قاتمة جداً، خصوصاً أمام التحديات في الإقليم الضاغطة على الوضع اللبناني والشديدة التأثير فيه. فالبلد الذي أُحكم استتباعه منذ التسوية مع «حزب الله» في العام 2016، وتم ارتهانه لخدمة مخطط طهران في فيينا، من دون التفاتٍ إلى تداعيات الانهيارات الشاملة التي تضربه وقد تحولت إلى كرة نار تأكل الأخضر واليابس، فيما الحكومة عطلها «الحزب» بعد شهر من التأليف الذي تأخر 13 شهراً إثر جريمة تفجير المرفأ! فأي مستقبل ينتظر بلداً منكوباً يتحكم فيه تحالف مافياوي ميليشياوي يستند إلى فائض قوة الدويلة؟
ليس قريباً الاتفاق في مفاوضات جنيف، لا، بل يبتعد والهوة كبيرة. طهران الساعية إلى بلوغ العتبة النووية تتشدد في التفاوض، وتتصرف وكأن «الهلال الفارسي» في حالة صعود على المسارح الإقليمية، في حين واقعياً تهتز مواقعها من مأرب إلى بغداد ودمشق، إلا في لبنان حيث تهيمن بفضل تغلغل «حزب الله» في مفاصل السلطة واحتكاره قرار البلد. فمثل هذا الوضع مع غياب أي جهد لفرملة الانهيار، والتسليم بأن الحكومة عاجزة عن إحداث ولو صدمة إيجابية، يعني أن ما ينتظر لبنان هو المزيد من الانهيار الداخلي. هناك احتمال الاصطدام الآتي بين دينامية هذه الانهيارات ودينامية الاستحقاقات الدستورية، وأولها الانتخابات البرلمانية، ما يحمل مؤشرات كبيرة على توترات وفوضى واسعة في الأفق، وربما تعد جهات طائفية لاستعادة بعض مؤشرات الكانتونات المغلقة التي كانت زمن الحرب الأهلية، وهنا قد لا يكون الرهان في مكانه أن المؤسسة العسكرية ستكون قادرة على استيعاب وضع يحاكي «الصوملة»!
خلف هذا التداعي الخطير، تكمن حقيقة أن لبنان القديم انتهى والجديد متعثر الولادة. ومحاولات تجديد نظام المحاصصة لن يكتب لها النجاح. في حين أن مسار الأحداث بعد «17 تشرين» أثبت مسؤولية «حزب الله» عن اختطاف الدولة، فالانهيارات لم تحدث بالصدفة، وفرض حكم البلد من خلال تسويات متصادمة مع الدستور، عجّل بسقوط المؤسسات التي أُفرغت من دورها. وما يجري على المسار القضائي يؤكد استهداف هذه السلطة، ويضاف إليه الكثير من ملامح استهداف خطير للمؤسسة العسكرية. والهدف الأبعد جعل البلد مكاناً غير صالحٍ للعيش ومجرد جغرافيا يسهل إحكام السيطرة عليه.
فضحت «17 تشرين» أبعاد الهيمنة، ونحّت جانب التلطي خلف عنوان المقاومة التي انتفى دورها، فما هو حاصل عمل ميليشياوي مدافع عن نظام محاصصة طائفي غنائمي، يستند إلى فساد تشريعي، فيمنع تنفيذ القرارات السياسية والقضائية ويحمي المخالفات وينتقص من السيادة. والأكيد، أنه لا يمكن مواجهة الحلقة التي تشد خناق البلد إلا باستعادة الناس كفاعل سياسي، كما في الأشهر الأولى للثورة. الوضع أصعب من أن يواجه على قاعدة «فورة عرب»، بل يتطلب الخروج من الاكتفاء بانتقاد «مجموعات» عفّى على دورها الزمن، كما عفّى على اعتبار «وجهاء» الثورة رافعة لها. والأكيد، أن استهداف الثورة بالعنف، وبالملاحقات القضائية وفبركة الملفات، أراد شلّها لمنع قيام حالات سياسية منظمة، يُعوّل عليها في بلورة بديل سياسي يفتح الباب أمام عودة الحياة السياسية وإعادة الاعتبار إلى السياسة، ما يؤكد أن الطريق أمام لبنان آخر ما زالت ممكنة، و«الصوملة» ليست القدر المحتوم!