بقلم: حنا صالح
وفي نهاية اليوم الثالث عشر على ثورة الكرامة، أعلن سعد الحريري «استجابة لنداء الشارع» تقديم استقالة حكومته، مؤكداً أنه «مرتاح أنني قدمت شيئاً للشعب اللبناني»، متهماً أطراف التسوية بأنهم أوصلوه إلى طريق مسدود. وانفجر الفرح في العيون وعلى الوجوه الفخورة بالإنجاز، واشتعلت ساحات لبنان بما تحقق خلال أيام أعادت لبنان إلى اللبنانيين، ارتفع التصفيق والهتاف وصدح النشيد الوطني، وبدا جلياً أن الانتصار بإسقاط الحكومة هي الخطوة - المفتاح في رحلة شاقة لاستعادة الجمهورية المخطوفة، بطي تسوية عام 2016 التي أفلست البلد وفاقمت الديْن العام والأمراض.
لقد بات الممر الإجباري لانتشال البلد تشكيل حكومة انتقالية تعبر عن نزاهة وكفاءة كي تحظى بالثقة الشعبية، فتحدث الصدمة المطلوبة وتشكل المظلة لحماية السلم الأهلي. وحدها حكومة من هذا النوع، بوسعها اتخاذ الإجراءات مع السلطات النقدية لوقف انهيار الليرة حماية لمعيشة اللبنانيين، وحماية القضاء لبدء رحلة المحاسبة الشفافة، وتحضير قانون انتخابات عادل ينسجم مع الدستور لإجراء انتخابات مبكرة هي البداية للتغيير الحقيقي، والشرط الشارط ألا تضم أحداً من الطاقم السياسي الذي أنتجه قانون انتخابات هجين زوّر التمثيل النيابي... وستبقى ساحات لبنان ملتهبة متوثبة لاستكمال الإنجاز.
بعد 17 أكتوبر (تشرين الأول) هلّت بشائر لبنان آخر، بدأت تتبلور فيه قيم جديدة تدفن السائد، ولا سيما التشاوف الفارغ وخطاب الكراهية العنصري الذي توسلونه لتأبيد نظام المحاصصة الطائفي. لبنان حقيقي آخر وُلدَ في ساحات الكرامة يصنعه جيل جديد دفن الانقسام الطائفي القاتل، انضمت إليه الأجيال الأكبر التي أُصيبت بالخيبات. في لحظة تجلٍ، تأمل المواطن، مسار حياته وطرح أسئلة بسيطة عما إذا استمر هذا التراجع المريع في حال البلد وأحواله الشخصية. تنبه أن له حقوقاً، وأن له مطالب فانتقل إلى الشارع. لم ينسق مع أحد ولم يحدد ساعة الصفر، بل هو التاريخ 17 أكتوبر فرض نفسه، نتيجة تمادي الحكم في الغطرسة وامتهان الكرامات، خصوصاً بعد العقد الأخير الذي تراكمت فيه سياسات الإذلال، وبالأخص تعامل الحكم مع أكثرية اللبنانيين أنهم أشبه بشعب زائد!
وعلى مدى أيام هذه الثورة التي بلغت يومها الخامس عشر، تغيّر المشهد العام وبات الانقسام عمودياً بين شعب الثورة وهم أكثرية اللبنانيين من جهة، وبين «حزب الله» و«التيار العوني» الملتحق به من جهة. في المقابل، تلاشت القوى الأخرى، وغابت الطبقة السياسية من زعماء ووزراء ونواب... وغابت تغريداتهم، في حين ارتفع شعار الثورة «كلن يعني كلن» المهيمن، واتسعت ثورة الكرامة ضد مافيا متسلطة استباحت كل شيء فنهبت الدولة، وسطت على المال العام وأفلست البلد المرتهن قراره والمصادر دوره. في هذه الأثناء أطل حاكم مصرف لبنان ليطلق مواقف تحمّل الشارع مسؤولية الانهيار الزاحف خلال أيام إذا لم تتوقف الاحتجاجات (...)، مع الإشارة إلى أن الثورة اندلعت في بعد أساسي منها رداً على الانهيار وعلى إقرار السلطة بوجود سعرين للدولار الشحيح في الأسواق!
الثورة في مسارها الجديد، هي في لحظة تأسيسية يمر بها البلد لإعادة تكوين السلطة، تواجه حكماً معزولاً رزله الناس، يجمع بين أطراف خائفين على مصالحهم وما استحوذوا عليه، وقلقين من النتائج التي ستترتب على توظيف لبنان في الأجندة الإيرانية. وللتدقيق، ما زال نظام المحاصصة الطائفي قوياً، وهو يتمتع بمخزون كبير من القدرة على المواجهة، وسيعمد إلى خلق الذرائع لتقسيم الشارع لإعاقة الحل الحقيقي، ولن يتأخر في محاولاته اللجوء إلى القمع عبر تركيب متضررين وتأليبهم على التحرك الشعبي، ويستند إلى قوته الضاربة ميليشيات «حزب الله» الجهة التي ترفع اللاءات بوجه اللبنانيين، وهي التي هندست تركيبة التسوية في عام 2016 وكل ما نجم عنها فكانت النتيجة تسريع الانهيار.
أوراق كثيرة أسقطتها الثورة قبل إسقاط الحكومة وأزاحت غمامة كبيرة عن العيون. فعندما خاطب الحريري اللبنانيين كان حذراً ومتوجساً، فقال إن ورقة «الإصلاحات» لا ترضي الشارع، لكنها ترضيه وسيسير بها، فجاء الدفاع الشرس عنها من حسن نصر الله الذي امتدح الوعد باستعادة الأموال المنهوبة مؤيداً «إصلاحات» مزعومة ستفضي إلى بيع القطاعات المربحة مثل الهاتف الخليوي والمرفأ وسواهما. وقفز فوق غياب المشاريع الاستثمارية، أي ما يعني صفر وظائف، والبطالة تطال نصف اللبنانيين، مغمضاً عينيه عن خريطة الفقر الذي يلف لبنان، واضعاً بالفعل كل السلطات خلفه، معلناً أنه هو السلطة الفعلية والمدافع عن نظام المحاصصة الطائفي، الذي تجاهل أركانه البحث في الاقتصاد الأسود والاقتصاد الموازي الذي يديره «حزب الله» ويحرم الخزينة مليارات الدولارات سنوياً... ورفع اللاءات خوفاً من أن أي تغيير قد يتحول إلى كرة ثلج! وهو قال بوضوح إن الثورة تستهدف الحزب فهدد اللبنانيين بالحرب الأهلية!
بالتأكيد، تكمن كل محركات الوضع اللبناني في الانهيار المعيشي والبطالة وتراكمات القهر والإذلال اليومي، وهذا بالضبط أبرز أسباب الانتفاضة في العراق. لكن، كلما أُمعن أكثر فأكثر بتشابه تركيبتي نظامي البلدين، والمكونات والخطاب السياسي وشكل المظاهرات الاحتجاجية، تبين أن القضية ليست مطلبية وحسب، رغم أن للمواطنين في البلدين حقوقاً ثابتة، فللقضية بُعدها السياسي الأكيد الذي أكدته بعفوية ساحات لبنان التي هتفت: «من العراق لبيروت ثورة واحدة لا تموت»، فردت عليها جموع العراقيين: «من التحرير لبيروت ثورة واحدة لا تموت». هنا نفهم بالضبط مسارعة حسن نصر الله لرفع الكارت الأحمر بوجه اللبنانيين، وحملات الترهيب والاعتقالات وفجاجة التحقيقات بغية كسر الشباب، وما الإغارة التي سبقت الاستقالة لترهيب المحتجين بعد تخوينهم إلا المؤشر على وضع بالغ الصعوبة مع فارق كبير تمثل بحرمان «حزب الله» من الغطاء الحكومي! وعليه يُرجح ألا تكون المرحلة الانتقالية قصيرة، وقد يشهد لبنان الذي يعيش أكثر مسؤوليه حالة إنكار الكثير من محاولات إعادة إنتاج حكومة أزمة لأنهم ببساطة مع غياب العقلانية يرفضون الاعتراف أن ما بعد 17 أكتوبر ليس كما قبله!