بقلم: حنا صالح
«أخذت أنا المبادرة لحلِّ الأزمات الضاغطة والمشاكل الطارئة»! إنها العبارة التي أطلقها الرئيس اللبناني ميشال عون، ليل السبت - الأحد، إثر الاجتماع الذي ترأسه وتقرر خلاله مد اليد على 225 مليون دولار، من «الاحتياط الإلزامي» في مصرف لبنان، أي البقية الباقية من ودائع للمواطنين في المصارف!
خلافاً لما دأبت بعض الأوساط على إشاعته حول صلاحيات رئيس الجمهورية، وخاصة عون وفريقه، فقد سبق للرئيس أن اتخذ الكثير من «المبادرات». لقد عطّل نتائج أعلنها مجلس الخدمة المدنية المتعلقة بمراقبي الجو في المطار الدولي، كما عطّل نتائج الاختبارات لتعيين مراقبي الأحراج، إلى تعطيله نتائج اختبارات كتّاب العدل وغيرها... والسبب المعلن هو إخلال النتائج بالتوازن الطائفي، في حين يحصر الدستور المناصفة بالفئة الأولى! ورغم ترهل القضاء، اختار عون في مايو (أيار) 2020 حجز التشكيلات القضائية متجاوزاً القانون وقافزاً فوق الدستور الذي يعتبر القضاء سلطة كاملة وما من دور تقريري للرئاسة على هذه السلطة!
وعلى مدى عام ونيف منذ أطاح التفجير الهيولي في 4 أغسطس (آب) حكومة حسان دياب، يتخذ القصر مبادرات مقلقة أعاقت تأليف حكومة جديدة. انطلق بعض «جهابذة» القانون في تقديم تفسيرات دستورية «غبّ الطلب» وضع بموجبها يده على عملية التأليف: من «حصة» الرئيس إلى الحق بالتسمية! يقول الدستور، إنه «عندما يحضر الرئيس يترأس ولا يحق له التصويت»، فبات له عديد الأصوات! ويتجاهل رأي الأكثرية التي كلفت شخصاً معيناً لترؤس الحكومة، فيذهب إلى إجراء مشاورات، وتقديم لوائح بأسماء المستوزرين، إلى إصراره كمرجعية في تسمية الوزراء المسيحيين، وكأن رئيس الوزراء رئيس لفريق المسلمين في الحكومة!
يُسجل للسفير مصطفى أديب أنه اكتشف باكراً هذا الفيلم فاعتذر عن عدم التأليف. أما الرئيس الحريري فاستمر يحاول والبلد ينتقل من قعرٍ إلى قعر، فزار القصر الجمهوري 21 مرة للبحث في تأليف الحكومة، ليجد نفسه أمام حائط مسدود من الشروط العرقوبية فاعتذر عن عدم القيام بالمهمة! والمريب أن أحداً ممن يُعتبرون «صنّاع الحكومات»، لم يتوقف عند تداعيات وأبعاد ظاهرة «مرمتة» الشخص المفترض أنه سيقود الحكومة، على طريق القصر الجمهوري ذهاباً وإياباً، وعقد لقاءات لا يتجاوز مدة اللقاء نصف ساعة ولا يُحلُّ أي أمر!
المعاناة نفسها يعيشها الرئيس المكلف ميقاتي الذي زار القصر حتى الآن 13 مرة، ويبدو أنه اقترب من الاعتذار عن عدم التأليف بعد افتضاح محاولة القصر الاستئثار بـ10 وزراء، فانتقل التفاوض إلى الرسل والمستشارين! يعني أن ما لم يتم حله بين عون وميقاتي هل يجد له حلولاً عبر الموظفين المستشارين! وفوق ذلك لو قبل كل المطروح تبدأ حكومته عملها باستقبال السفن الإيرانية!
نقطة الإجماع في كل المراحل، اقتصار المفاوضات على الحصص. ما من تطرقٍ إلى البرنامج المفترض، ولم يطرح أي عنوان إصلاحي، وعندما سئل ميقاتي رد بأن البرنامج في ذهنه! هذا مع العلم أنهم في منظومة الحكم يثابرون على إطلاق معزوفة الخطوات الإصلاحية؛ في السياسة المالية والمصرفية، وفي النهج الاقتصادي، وأولويات الكهرباء والاتصالات وقطاعات الإنتاج، وإعادة النظر في حجم القطاع العام الذي نفخته الممارسة الزبائنية إلى أكثر من 25 في المائة من اليد العاملة!
اللافت، أن مبادرة عون اقتصرت على استمرار دعم المحروقات حتى نهاية سبتمبر (أيلول)، والناس تدرك أن طوابير الإذلال ستستمر، نتيجة قرار سياسي باستمرار التهريب المقونن، وضرب عرض الحائط بحقوق اللبنانيين! والقرار تعهد مقطوع لرئيس النظام السوري وتمويل إضافي للاقتصاد الموازي لـ«حزب الله»، وزيادة أرباح الاحتكارات! واللافت أنه ما من مبادرة بشأن المسؤولية عن فقدان الرغيف، وأدوية السرطان وانهيار الاستشفاء مع هجرة كثيفة للأطباء، ولا إشارة إلى فقدان القرطاسية في الوزارات، وتجاهل أرقام أن 77 في المائة من الشباب يعتزمون الهجرة من الجحيم الذي وعد به عون ويتحقق كل يوم! كما انعدم الاهتمام بتحذير اليونيسف من تعرض نحو 4 ملايين إنسان في لبنان لنقص حاد في مياه الشرب أو انقطاعها التام!
الأكيد أن الذين استمعوا لخطبة ليلة 21 - 22 الحالي، وإعلان عون أنه اتخذ المبادرة لحل الأزمات، تذكروا ولا شك حديثه المتلفز قبل نحوٍ من عام إثر التفجير الإجرامي الذي دمّر بيروت. يومها أعلن بلسانه أنه تلقى في 20 يوليو (تموز) تقريراً مكتوباً عن «نترات الأمونيوم» في مرفأ بيروت، وأنه قام «بالتبليغ لإجراء اللازم وهو أمر». يومها قال من كان قائداً للجيش، إنه لم يكن على علمٍ بمدى خطورة الشحنة المخزنة! وكان الأخطر قوله «إن صلاحياتي لا تسمح لي بالتعاطي المباشر بالمرفأ، هناك تراتبية يجب احترامها»! طبعاً لم يتخذ يومها أي مبادرة سوى تبليغ المجلس الأعلى للدفاع الذي يرأسه والذي اجتمع بين 20 يوليو و4 أغسطس أكثر من مرة ولم تكن هذه القضية على جدول الأعمال!
15 يوماً فصلت بين تبلغ التقرير الخطي، وفيه أن بيروت ستكون عرضة للدمار، ولم تتخذ أي مبادرة لأن «صلاحياتي لا تسمح...»! وسنة ونيف على جريمة الحرب، وإعلان عون أن «العدالة المتأخرة ليست بعدالة»، متعهداً «أن تكون أبواب المحاكم مفتوحة أمام الكبار والصغار»... والحصيلة انكشاف التوافق بين كل الطبقة السياسية على ما طرحه نصر الله، الاكتفاء بنتائج التحقيق الأولي الأمني، وتجاهل دور القضاء والعدلية والتمسك بأن القضية ناجمة عن إهمال وأخطاءٍ إدارية، والبحث عن أي كبش فداء من بين صغار المسؤولين، ووضع قاضي التحقيق العدلي طارق بيطار أمام تحدي الرضوخ أو الإبعاد عن الملف!
لا مبادرة في القضية التي أدت إلى إبادة في بيروت هزت العالم ولم تهز كرسي مسؤول لبناني، بل مبادرات لتهريب المدعى عليهم بجناية القصد الاحتمالي بالقتل، من السياسيين والقادة العسكريين والأمنيين! لأن التحقيق قد يكشف ما يريدون التستر عليه، وما اشتبه به كل الناس، أي دور الجهة الممسكة بالمرفأ عنابر وأرصفة؛ ما مكّنها من فرض التخزين والتكتم كل هذه السنوات، ثم تغطية سحب كميات أُرسلت إلى المستفيد الفعلي في دمشق. إنهم يتسترون على تواطؤ في أخطر قضية! لقد قبلوا أن القتل المباح سيطال السوريين بدون اللبنانيين؛ لذلك أعاق غياب «الصلاحيات» المبادرة، ولأن الجهات نفسها مستفيدة من التهريب حضرت المبادرة من فوق الصلاحيات، وحتى لو أدى ذلك إلى استنزاف آخر فلس من جنى المواطنين!
لقد فُرض على لبنان أن يدفع إلى «حزب الله» فواتير متواصلة كثمنٍ لوصول عون إلى الرئاسة. وهذا المنحى يمكن كسره من خلال ميزان قوى يعكس قوة قوى التغيير وهم الأكثرية بدليل حشود 4 أغسطس. والأساس تحدي قيام جبهة معارضة سياسية منبثقة من الناس، تبلور بديل حالة الاهتراء، يمكن أن تفتح منافذ أخرى أمام البلد وأهله لاستعادة الدولة المخطوفة وانتشال لبنان من الحضيض الذي دُفع إليه!