بقلم: حنا صالح
الأكيد أن المنظومة السياسية اللبنانية قادرة في كلِّ حين على ابتداع ما يلحق الأذى بلبنان واللبنانيين. كل الانهيارات التي تضرب حياة الناس وتهدُّ البلد لم تحدث بالصدفة، بل هي نتيجة ممارسات إجرامية لا يمكن أن يقوم بها إلاّ من يمتلك القدرة على القرار.
إنه التحالف المافياوي المتحكم، الذي تسبب بإفقار عموم اللبنانيين وتجويعهم، بحيث تحولوا إلى شعب متسول ينتظر رشوة وضيعة توفرها «البطاقة التمويلية»! وثابت أن من أوصل البلد إلى هذا القعر لا يستطيع انتشاله، ولا يريد ذلك، لأن تغيير الاتجاه سيؤدي إلى الاصطدام بالمصالح الفئوية التي يمثّلها نظام المحاصصة الطائفي المحروس بسلاح «حزب الله»!
العزلة الدبلوماسية عن دول الخليج العربي، والتسبب بقطيعة اقتصادية بعد السياسية، علاجها في بيروت، ومن العبث الركون إلى الوساطات وحدها. والحرص الكبير الذي أبداه وسطاء كثيرون، وكانت ذروته في المباحثات السعودية - الفرنسية، فبرز الحرص على استعادة لبنان، واعتزام الذهاب بعيداً في التوافق على آلية عملٍ تحدُّ من الكوارث اللاحقة بالمواطنين، كنتيجة لسياسة عزل لبنان واقتلاعه فيتحول إلى مجرد جغرافيا تلبي موجبات أجندة الهيمنة الإيرانية من خلال الدويلة!
بهذا المعنى فإن «إعلان جدة» السعودي – الفرنسي، وهو خريطة طريق لإنقاذ لبنان وحماية اللبنانيين، كان ينبغي أن يكون برنامج عمل الحكومة اللبنانية، لو كان لبنان يحظى بحكومة تمثل حقيقة تطلعات الشعب اللبناني ومصالح البلد. لأن الطبيعي في عمل أي سلطة ألا تتأخر عن إدخال الإصلاحات الضرورية، ومعالجة الاختلالات الإدارية والمالية، واحترام الدستور والتزام القوانين التي وُجدت لإنصاف المواطنين والعدل بينهم، كما حماية الحدود والسيادة وبسط السلطة بقواها الشرعية.
اليوم مع اقتراب الربع الأول من القرن الحادي والعشرين من نهايته، كم بلداً في العالم يعيش في العتمة ومن دون كهرباء؟ وكم بلداً في العالم حدوده مستباحة؟ وما نوع هذه السلطة المتجبرة على ناسها لكنها تغرس رأسها في الرمال متعامية عن موجب استنكار تكرار طهران مزاعمها بأن بيروت واحدة من العواصم العربية الأربع التي تقع تحت سيطرتها؟! وكم هو تعداد البلدان التي تتعامل باستنسابية مع قرارات الشرعية الدولية التي تضمن السيادة الوطنية والاستقلال وتدعم الحق بالترسيم النهائي للحدود؟
عندما يشدد «إعلان جدة» على التزام اتفاق الطائف، بما هو وثيقة الوفاق التي ارتضاها اللبنانيون، فهنا الإشارة واضحة إلى رئيس الجمهورية بأن الدستور هو المرجع وليس أي أمر سواه. يعني من غير المقبول أن يحكم البلاد وفق «اتفاق مارمخايل» الحزبي والطائفي، الذي قام على مقايضة وصول عون إلى بعبدا مقابل تغطية ممارسات «حزب الله» وتغوله، مصادراً قرار السلم والحرب والقرار السياسي وباسطاً هيمنته على القرار الاقتصادي. والأمر المثير أن هذا الاتفاق الفئوي، شكّل قاعدة التسوية الرئاسية في عام 2016 وحصيلة ذلك النهج تجاوزت معدلات الفقر الـ82%، وتحول لبنان إلى موقع متقدم في ممارسة التعديات على الأشقاء العرب وإلى مصدر للاتجار بالمخدرات واستهداف الأمن الاجتماعي للمجتمعات الخليجية.
لا يبدو أن رئيس الحكومة الذي شارك في محادثة ثلاثية جمعته مع ولي العهد السعودي والرئيس الفرنسي، يمتلك بدائل في السياسة عن السائد، رغم تعهداته الاستباقية بنهج مغاير لذاك الذي تسبب بالقطيعة التاريخية. فها هو الرئيس عون في حديثه إلى «الشرق» القطرية يعيد تأكيد مواقفه من السلاح الفئوي ودوره داخلياً وخارجياً فيرى «أن كل شيء مطلوب من (حزب الله) يلتزم بتنفيذه ولم يتجاوز بنود قرار مجلس الأمن الدولي 1701»! وترافق ذلك مع حملة شككت بالقرارات الدولية وأنها «ليست موضع اتفاقٍ داخلي»! مفهوم، لأن من أنشأ جيشاً بديلاً يرفض القرار1559 الذي يحصر السلاح بيد الشرعية، ومن استباح الحدود متدخلاً في المنطقة وحارساً للتهريب، يرفض القرار 1680 لأنه يدعم ترسيم الحدود مع إسرائيل وسوريا، ويحدد حدود الثروة الغازية في البحر، والأكيد أن الأكثرية لا تتفق مع تأكيد التزام «الحزب» بالقرار 1701!
على الأغلب أن ميقاتي الذي يترأس حكومة شكّلها «حزب الله» هاجسه شراء الوقت لتمديد إقامته في السراي، وإنجاز إعادة تعويم منظومة الحكم التي عرّت «17 تشرين» نهبَها وفجورَها، وقاطعها المجتمع الدولي ولم يؤمّنها على مساعدات عينية توزعها لأنها لن تصل إلى مستحقيها.
لذلك التزم الرضوخ لتعطيل مجلس الوزراء بعدما رهن ذلك «حزب الله» و«أمل» بشرط «قبع» المحقق العدلي في جريمة تفجير المرفأ. ورغم معرفته أن المشترع حصر القرار بيد مجلس الوزراء مجتمعاً، لأنه دستورياً مركز السلطة ومصدر القرارات، ذهب إلى ابتداع معادلة قوامها: «الحكومة ماشية لكن مجلس الوزراء مش ماشي»! لذلك يُحجم عن أي مبادرة ويعلم أن أكثر ما تتوصل إليه الاجتماعات الحكومية هو إصدار التوصيات!
ولأن الحكومة ماشية، لا ينبغي إغفال مسؤولية ميقاتي الذي يتصدر محاولات المافيا والميليشيا الهروب من المسؤولية والمحاسبة. فبالتزامن مع «إعلان جدة» ودعوته إلى الإصلاح المالي، صدر تقرير «موديز» الذي أظهر بالأرقام أن العصبة الحاكمة وراء خروج 5.9 مليار دولار خلال عامين بعد «17 تشرين» مع تفاقم الأزمات النقدية والمالية، وأشار التقرير إلى أن معظم التحويلات تعود إلى نافذين سياسيين واقتصاديين! في هذا الوقت يتم طرح أخطر مشروع قانون على البرلمان يحصّن المصارف ويحمي الكارتل المصرفي!
بتأخير عامين وبعد تهريب الأموال، تم تقديم مشروع «كابيتال كونترول»، تبناه ميقاتي بشكلٍ رئيسي وهو يعكس مطالب الكارتل المصرفي المرابي والسياسيين الداعمين له. يقونن المشروع التمادي الجرمي في نهب الودائع، ويحمي الانقضاض على المتبقي من مدخرات الناس وشقى العمر. وينص صراحةً على تأمين الحماية القضائية اللاحقة وعلى ما سبق من ممارسات المصارف وإذلالها للمودعين، وذلك في تدخل سافر في عمل السلطة القضائية، ويرمي مئات ألوف الأسر إلى الموت... لكنّ حجم المعارضة الشعبية أسقط المشروع، إذ لم يتجرأ نواب نظام المحاصصة على البحث به وتمريره.
الحديث عن خطوات لضبط التهريب لا يغطي الحواجز المانعة مرور «إعلان جدة». هذا الأمر يعيد اللبنانيين إلى الأساس الذي طُرح منذ بدء «ثورة تشرين»، وطرحه المجتمع الدولي، وهو ضرورة قيام حكومة مستقلة عن المتسلطين الذين فقدوا الأهلية الوطنية. الواضح أن زمن الحكومات الواجهة التي تغطي «حزب الله» قد انتهى، فهي سرّعت الانهيارات، والشركاء في المسؤولية عن النهب والخراب لن يعيدوا الحقوق ولا إعمار ما دمّروه، ومن دون حكومة قادرة على استعادة الثقة والقرار، لن يكون ممكناً استعادة الدولة المخطوفة وموقع لبنان، وإلاّ فالبديل ما أعلنه القيادي في «حزب الله» هاشم صفي الدين؛ «نعيش نعيم الانتصارات»!