بقلم: حنا صالح
قبل نحو 8 سنوات، توجّه حسن نصر الله إلى «شركائه» في نظام المحاصصة الطائفي بسخرية، ليبلغهم أن من ينتصر في الإقليم يحسم كلية الوضع اللبناني. يومها كان تدخل الحزب في الحرب على الشعب السوري يأخذ منحى تصاعدياً بعدما تراجع عن توقيعه على «إعلان بعبدا»، وقال بلسان محمد رعد الذي وقّع الإعلان «روحوا بلّوا ميته واشربوها»!
وقبل أيام تجاوز البطريرك الراعي الموعد المحدد رسمياً لانتخاب برلمان العام 2022 في الخامس عشر من مايو (أيار) المقبل، ليطلق التحذير من مخاطر «تأجيل أو إلغاء الانتخابات النيابية والرئاسية لأهدافٍ خاصة ومشبوهة». ولفت الانتباه تأكيده للرؤوس الحامية أن «لا أحد يستطيع ادعاء اختصار إرادة المواطنين».
للوهلة الأولى قد لا يكون هناك من رابط بائن بين ما ذهب إليه نصر الله وما شدد عليه البطريرك الراعي. غير أن الجو الآخذ بالاتساع يشي بأن النظرة للانتخابات تنطلق من أنها «مفصلية» و«محطة محورية» على طريق التغيير. ينطلقون من حقيقة أن كل الانتخابات منذ العام 1992 (6 برلمانات) جرت على الدوام بين أطرافٍ تنضوي كلها تحت يافطة نظام المحاصصة الطائفي الحزبي الغنائمي، وما من مرة كانت بين موالاة ومعارضة. كلهم كانوا في خانة الانصياع للسيطرة العسكرية السورية حتى العام 2005، وانتقلوا بعدها إلى القبول بتغول «حزب الله» على الدولة. برروا التبعية للنظام السوري بشعارٍ مقيت «وجودٍ مؤقتٍ وضروري»، وتسليمهم قرار البلد للدويلة بالإعلان أن «السلاح غير الشرعي شأن إقليمي لا قدرة لبنانية على علاجه»!
على أرض الواقع، نجح «حزب الله» بالتعطيل ولم يتمكن من الفرض، فحجز الرئاسة 30 شهراً. واستفاد من التوصل إلى الاتفاق النووي في العام 2015 وما بدا أن واشنطن قدمت المنطقة لحكام طهران، فنقل أبرز «معارضي» الحزب «تيار المستقبل» و«القوات اللبنانية» البندقية من كتفٍ إلى كتف، فعُقدت صفقة العام 2016 الرئاسية، بانتخاب عون مرشح الحزب رئيساً، مقابل محاصصة في مغانم السلطة انعكست في الحكومتين اللتين ترأسهما الحريري بين نوفمبر (تشرين الثاني) 2016 ونهاية أكتوبر (تشرين الأول) 2019.
اتفاق الإذعان الداخلي وليس التدخل العسكري في الإقليم، منح «حزب الله» سيطرة لم يتوقعها يوماً، استندت إلى تحالف سياسي عريض وفّر غطاءً للدويلة وسياساتها، واطمأن الحزب إلى غطاء نوعي؛ مسيحي عبر عون وفريقه، وسني عبر الحريري وفريقه وكان التغاضي عن دوره في الإقليم. فترة ذهبية مارس خلالها السلطة من دون أن يكون مضطراً إلى تصدرها، لكن الأمر انقلب رأساً على عقب بعد ثورة تشرين، وانكشاف حجم السطو والنهب الذي طال أيضاً ودائع المواطنين، فتقدم الصفوف لحماية نظام المحاصصة، والتسوية الرئاسية رغم التصدع الذي أصابها... مستنداً إلى أغلبية من 72 نائباً وحاسماً ضد استقالات النواب!
ما بعد اتفاق الإذعان تمكن «حزب الله» من وضع لبنان على الأجندة الإيرانية، ولم يهمل الأجندة السورية بعد انحسار الأعمال العسكرية. لكن جريمة تفجير المرفأ أربكت التحالف المافياوي ودفعته إلى حافة السقوط، فكانت «مبادرة» الرئيس الفرنسي ماكرون خشبة الخلاص التي أعادت تعويمهم. توحدوا ضد الحقيقة ورفضوا العدالة وتمسكوا بالحصانات ونظام الإفلات من العقاب، لكن التفسخ اتسع والاستثمار بالفراغ 13 شهراً من تصريف الأعمال بعد جريمة الحرب التي استهدفت بيروت انقلب إلى نقيضه، وعمّق الأزمات احتجاز جلسات مجلس الوزراء، فتقدم التبرم من صلف «حزب الله» وممارساته. باتت بارزة المعارضة من أوساط هادنته طويلاً، والأكيد هم يعرفون حجم الضمور اللاحق بـ«الحلفاء»، وبعضهم حالات صوتية لم يكن لها في أي يوم حاضنة شعبية وازنة. أما ميل اللبنانيين إلى معاقبة الرئاسة وتيارها في الانتخابات النيابية، فقد برز من خلال منحى تقنين التيار لعدد المرشحين، في حين أن إمكانية احتفاظ باسيل بمقعده أمر مشكوك فيه!
كل ما تقدم يعني أن الحزب لم يعد مرتاحاً إلى مكانته كحجر الرحى لهذه القوى. الأكيد اليوم أن غالبية لبنانية وازنة، ترفض هيمنة ما يسمى «حزب الله» واختطافه الدولة ومصادرة قرار البلد. أكثرية راجحة تجاهر بأن السياسات التي فرضها على البلد أكبر من طاقته فأدت بلبنان إلى العزلة، في حين كان يكتسح الفقر والعوز كل الجغرافيا اللبنانية ولم تنجُ منها بيئة «حزب الله».
يتبدل المشهد الداخلي، وفي الإقليم حيث لم تكن الأمور محسومة في أي يوم، يتبدل الوضع بسرعة. مأرب كسرت الحوثيين، وشبوة تحررت والبيضاء مطوّقة وقوات الشرعية اليمنية تدق أبواب صنعاء. أما العراق «درة تاج» مشروع الملالي، فإن الضبابية تنحسر، وها هو إسماعيل قاآني قائد «فيلق القدس» يفاوض مقتدى الصدر عن الضمانات لعدم ملاحقة رموز عديدة من زعماء ميليشيات «الحشد الشعبي»، و«إطار التنسيق» بطريقه للتشظي... في حين الوضع في سوريا يشهد الكثير من التبدلات، بينها إبعاد الميليشيات الإيرانية عن كل المناطق التي يمر بها خط الغاز العربي من الحدود الأردنية إلى حمص عبر دمشق وصولاً إلى شمال لبنان.
في هذه الانتخابات، إن لم يُفرض تأجيلها في اللحظة الأخيرة، يواجه «حزب الله» وضعاً جديداً أغلب الظن أنه لم يكن في حسابه بعد تسوية العام 2016. فالانتخابات ستكون على الأعم، بين التحالف المتسلط رغم وجود فجوات بين فرقائه وتعارضهم حول الأحجام والمواقع، والمعارضة التغييرية المنبثقة عن ثورة «17 تشرين»، التي بدأت تبلور تموضعها في بعض الدوائر كما في إعلان تحالف «شمالنا» في الأقضية الأربعة التي تضم أبرز مرشحي رئاسة الجمهورية سليمان فرنجية وجبران باسيل وسمير جعجع، أو في إعلان قيام «ائتلاف قوى التغيير في عكار» إلى خطوات شبيهة في دوائر أخرى لن يتأخر بروزها... بالمقابل، تؤكد استطلاعات الرأي أن شعبية كل الأطراف السياسية تتآكل، والكل في وضع التوجس من النتائج.
قبل أن تبوح صناديق الاقتراع بمكنونها، ويبرز حجم التصويت العقابي، يعرف «حزب الله» أن أكثريته السابقة ستصبح من الماضي. بالتأكيد لن تتراجع قدرته على التعطيل، لكن القدرة على الفرض مسألة أخرى. وربما تنتفي كل شروط فرض رئيس جديد شبيه بالحالي وأدائه؛ الأمر الذي دفع البطريرك الماروني إلى مناشدته تحرير رئاسة الجمهورية! هنا سيجد الحزب نفسه أمام المفترق الخطير. يدرك أنه خسر الأكثرية الشعبية، فهل سيسمح بانتخابات تكبّده خسارة الأكثرية البرلمانية؟ ولديه جعبة لا تنتهي من الوسائل والتعسف لمنعها، ويعرف أن جبهة المعارضة الحقيقية لحماية المسار الدستوري لم تتبلور بعد، في حين الإدانات الخارجية سرعان ما تنقلب إلى قبول الأمر الواقع!
تحت الطاولة حديث عن تمديد مدة سنة للبرلمان الحالي، إن لم ينجح منحى تقديم انتخابات رئاسة الجمهورية على النيابية، وهذا بين عناصر أخرى أقلقت البطريرك الراعي فأطلق تحذيره لأن ذلك يفاقم تفتيت البلد.