بقلم: حنا صالح
ذكرني بعض الأصدقاء تعليقاً على ما أسفرت عنه الانتخابات البرلمانية في عام 2009، أن «حزب الله» «نسف تعهده... ليحكم من يفز»، وفرض ثلثه المعطل على تشكيل أول حكومة بعد الانتخابات، ليطيح بها لحظة دخول رئيسها سعد الحريري إلى البيت الأبيض، فاستقبله الرئيس أوباما رئيساً للحكومة وخرج رئيس حكومة مستقيلة!
ولفتني صديق إلى الحديث الأخير الذي أدلى به نعيم قاسم، وتناول ما يتردد من أن حزبهم سيفقد أكثريته البرلمانية في الانتخابات التي تحدد موعدها في 15 مايو (أيار)، ما لم يختلقوا الأسباب لتأجيلها، فقال قاسم إن «الانتخابات ليست سباقاً على الأغلبية النيابية، لأن التوازنات في البلد لا تبنى من خلال ميزان القوى في المجلس النيابي، بل ترتبط بموازين داخلية وخارجية ستؤثر على نحو مباشر في هوية الرئيس المقبل».
وكثر كانوا الأصدقاء الذين تناولوا ترهيب السلاح، والتهديد المتكرر بـ100 ألف مسلح و150 ألف صاروخ، وما يتمتع به هذا التنظيم من مكانة لدى نظام الولي الفقيه، فهو درة تاج الجيوش الستة التي أنشأتها طهران، لتلقي الصدمة الأولى، في حال استهدفت الجمهورية الإسلامية بعمل عسكري. وبالتالي سيكون ضرباً من السذاجة استسهال التفكير أن هذا التنظيم يمكن أن يتراجع ويقبل بواقعٍ آخر، وهو الذي استسهل تمزيق خرائط المنطقة عندما تجاوز الحدود حتى اليمن.
الأمر الأكيد، أن نصر الله كان واثقاً من الفوز بالأغلبية عام 2009 فأطلق تعهده، وعندما خابت آماله وجد من يلاقيه إلى منتصف الطريق تحت شعار «كلنا تحت سماء لبنان»، متخلياً عن قرار أغلبية اللبنانيين. وعندما أسقطوا حكومة الأغلبية، وأعلن عون نيابة عنهم، أنهم قطعوا لرئيسها «وان واي تيكت» لم يجد سعد الحريري حاضنة شعبية تحميه لأنه تخلى عنها. أما ما يقال عن السلاح فهو مسألة أساسية تستحق التبصر والتأمل والإصرار على السلمية وحسن اختيار المرشحين. قلق نعيم قاسم يدفع الحريصين على استعادة الدولة المخطوفة أن يبادروا إلى مغادرة رصيف التاريخ والكف عن الانتظار «حتى مرور كل الجثث».
من البداية، ومن موقع القوى «التشرينية»، يُعدُّ هذا الاستحقاق الأول بوضوحه الذي تستعد لخوضه قوى تغييرية منتمية لثورة «17 تشرين»، التي جذّرت وعياً شعبياً بحقوق المواطنين، وأبرزت أهمية صوت كلِّ فرد من مئات الألوف الذين كسروا انتماءات أولية مفروضة، عندما غادروا التعصب والتمذهب. هذه القوى هي اليوم أمام معركة مفروضة تواجه فيها «نفايات سياسية»، وفق وصف الرئيس السابق تمام سلام، حصيلة تحالف مافياوي جمع ميليشيات الحرب والمال، وأحكم قبضته على السلطة منذ نهاية الحرب الأهلية. وأسلس القياد لـ«حزب الله» منذ عقدٍ ويزيد، وصولاً إلى التسليم المطلق بدوره، آمراً ناهياً، منذ صفقة عام 2016 بانتخاب مرشحه الوحيد رئيساً للجمهورية.
أما برنامج المعركة فهو الأكثر وضوحاً، يقوم على رفض الدولة - المزرعة ونظام المحاصصة الطائفي الحزبي الغنائمي. في رأس أهدافه مواجهة منحى الدفع نحو دولة بوليسية تحمي المتسلطين، ورفض المخطط الساعي إلى تكريس اقتلاع لبنان، وعزله عن محيطه، وفرض استتباعه لمحور الممانعة. كما يتمسك البرنامج بمطلب استعادة العمل بالدستور المعلق منذ السيطرة العسكرية للنظام السوري. لتقوم دولة القانون والحق، فتبسط السيادة على كامل تراب البلد، وتفتح الباب لحلول زمن المساءلة والمحاسبة واستعادة الحقوق مع سلطة قضائية مستقلة. لكن يبقى للسؤال كل مشروعيته: هل يمكن للانتخابات أن تنقل لبنان إلى مثل هذه الحال.. إلى مثل الصورة الزاهية أعلاه؟
الأرجح أن صناديق الاقتراع إن باحت بمكنون الرفض السياسي والشعبي لـ«حزب الله» ومشروعه، وحرمته أكثريته النيابية، (حالياً 72 نائباً من 128)، فاختارت من بين من ستختار وجوهاً تشرينية واضحة في التمسك بأولوية استعادة الدولة المخطوفة بالسلاح والفساد والطائفية، أي رفض المخطط الخطير لاقتلاع لبنان وتكريسه ورقة في خدمة مخططات حكام طهران، وهو الذي تطلب، ويتطلب، تهميش السلطة بدءاً من الموقع الأول، وتفتيت المؤسسات وتجويفها إلى الاستنسابية في تطبيق القوانين، واستهداف القضاء بما هو سلطة التوازن التي مُنعت استقلاليتها... إذاك، إن التصويت العقابي المتوقع رداً على من أذلَّ المواطنين وحاصرهم بالعوز وخطر الموت بالوباء أو الجوع، سيفضي إلى وضع تسلط «حزب الله» أمام أزمة لم يعرفها، منذ بداية صعوده للإمساك بخناق اللبنانيين، عندما تمّ تحويل «حرب تموز» منصة للقفز على السلطة.
بهذا السياق يذهب «حزب الله»، على لسان نصر الله، إلى أبعد مدى في مخطط قطع الجسور، مع السعودية باستهداف قيادتها بأقذع التهم وقلب الوقائع والحقائق، وصولاً إلى زجِّ مئات ألوف اللبنانيين العاملين في الخليج في صلب حملته واعتبارهم «رهائن» محتجزة «لتهديد لبنان بهم» (...)، ما يكشف من ناحية عن مآزق داخلية يواجهها متوسلاً التوتير والشحن المذهبي، لتغطية مسؤوليته عن كرة الانهيارات، وهو الجهة التي تسلمت زمام الأمور تباعاً منذ غزوة بيروت في مايو 2008. ومن الناحية الأخرى تجلت المخاوف الخارجية التي تسكنه حيال حقيقة التطورات الإقليمية ومآلاتها، التي فاجأته من مأرب إلى بغداد. عندها يمكن أن تُفتح وإنْ بصعوبة أبواب بداية تسوية حقيقية من شأنها أن تطلق عملية إعادة تكوين السلطة.
مرة أخرى، محطة الانتخابات يمكن أن تكون المفترق الاستثنائي، بوجه نهج الهيمنة القسري على لبنان، والسلطة على القضاء، والعبث بالدستور، وحكم البلد بالبدع وفتاوى العرافين. والأمر الأهم، أن تُواكب مع جهد تنظيمي حثيث يدفع إلى قيام جبهة سياسية معارضة تجمع أوسع تحالفٍ للتغيير، فتنتصر للدولة الواحدة وتقيم من اللبنانيين سداً شعبياً بوجه الدويلة الموازية، فتحمي عملية إعادة تكوين السلطة. الوضع دقيق، صعب ومعقد، لم يعرف له لبنان ولا المنطقة أي مثيل، والحذر كل الحذر من أي تراخٍ في المواجهة الشعبية السلمية، أو القبول ببعض الطروحات الساذجة ممن راهنوا يوماً على «سيادية» عون وتياره البرتقالي، فلم يتحملوا صدمة الحقيقة فقفزوا إلى طروحات بائسة مثل الفيدرالية التي يتم الترويج المبسط لها.
مرة أخرى لا ينبغي تفويت الانتخابات فهي المحطة التي تشغل اللبنانيين، وما بعد «17 تشرين» غير ما قبله، لجهة إمكانية استعادة التوازن الوطني المأمول الذي يصون الحريات ويحمي التنوع، لمصلحة التغيير من الدولة المزرعة إلى الدولة الطبيعية. مثل هذا التوازن سيحد من خطر التدخلات الخارجية وستكون له الكلمة العليا في انتخاب رئيس جديد للجمهورية بعد تحرير الرئاسة والبلد من كل ارتهان متصادم مع مصالح اللبنانيين.