بقلم: حنا صالح
في 21 نوفمبر (تشرين الثاني) 2013 وصلت إلى مرفأ بيروت باخرة الموت «روسوس» والذريعة أنها «واجهت صعوبات فنية»، تزامن ذلك مع اتفاق أنجزته وزارة الطاقة (وزيرها جبران باسيل) تنقل بموجبه «روسوس» إلى العقبة معدات تنقيب مستأجرة من الأردن، فيا لهذه الصدفة!
وفي الـ25 منه، أي بعد 4 أيام، صدر قرار قضائي بالحجز على الباخرة «لعدم استيفائها شروط سلامة الملاحة البحرية وفق القوانين الوطنية والدولية»! وتتالت القرارات القضائية بالحجز القضائي لإيفاء دين على مالك السفينة، وعلى القبطان، ليتم تباعاً إنجاز كل الإجراءات لمنع السفينة من الإبحار، بعد الإفراج عن البحارة ومغادرتهم لبنان، وبدا أن الهدف الحقيقي تفريغ حمولتها وهي شحنة من «نترات الأمونيوم» وتخزينها في العنبر «رقم 12» وقد تم ذلك في 27 يونيو (حزيران) 2014!
آنذاك كانت الحكومة اللبنانية التي اشتهرت بتسمية حكومة «القمصان السود» تصرّف الأعمال، بعدما قدم رئيسها نجيب ميقاتي الاستقالة في 25 مارس (آذار) 2013 وتم في السادس من أبريل (نيسان) تكليف تمام سلام تأليف الحكومة الجديدة، التي تأخر تأليفها حتى 15 فبراير (شباط) 2014! حاصل القول: إن شحنة الموت وصلت في زمن الحكومة الميقاتية، واللافت اليوم، أن ميقاتي ترأس أول حكومة بعد التفجير الهيولي في 4 أغسطس (آب) 2020 الذي دمر المرفأ وقلب بيروت، وبدت الحكومة الجديدة في تركيبتها كأنها حكومة جريمة «4 آب»، عندما جمعت قبضتها الثقيلة منظومة الحكم المعيقة للعدالة والمتلطية خلف الحصانات لمنع المحاسبة!
المثير في الموضوع، ما بدا للعيان، أن تأليف الحكومة الذي تأخر 398 يوماً، بدا حدثاً غير مقطوع الجذور عن الحكومة السابقة، حكومة «القمصان السود» التي شكلها نصر الله وجيءَ بميقاتي لرئاستها! وقد تبين أن المشروع الذي يستهدف إحكام القبضة على لبنان لفرض استتباعه لـ«إيران الكبرى»، يتطلب اهتزاز النظام السياسي، وبروز شيخوخة السلطة، وتلاشي المؤسسات وانعدام فاعليتها، وتجاهل تداعيات وطأة الانهيارات والمجاعة وطوابير الذل على محطات الوقود، إلى القرار الخطير الذي قضى بنقل الثروة إلى الخارج إنْ من خلال التهريب أو من خلال نقل الأموال، وحتى عدم الاهتمام مع حدث كان يمكن أن يُسقط كل السلطة في بلدٍ طبيعي، عنيت مظاهرة مرضى السرطان وسط بيروت بعدما تُركوا من دون دواء فريسة للموت!
شيء من العرف في لبنان، أن انتخاب رئيس للجمهورية يتم وفق توافقات إقليمية دولية وغطاء داخلي كان يتيح للبعض التباهي بالقول إن الرئاسة «صناعة محلية» كما أثر انتخاب عون مرشح «حزب الله» رئيساً. لكن منذ حكومة سلام في عام 2014 ما عاد قرار تأليف الحكومة مسألة داخلية، ويومها ارتبط التأليف بتقدم مفاوضات الاتفاق النووي. وبعد التسوية في عام 2016 التي جرت في العمق مع «حزب الله»، لم يعد تأليف الحكومات في لبنان مسألة داخلية، لا بل إن رئيس الحكومة والتشكيلة الوزارية يتحددان في الخارج.
وهكذا بعد اعتذار مصطفى أديب وعجز الحريري لفشله في إدارة مهمته، وقفت باريس وراء تسمية ميقاتي، فحاز تزكية طهران وحزبها في لبنان نظراً لماضيه حيالهم في حكومة عام 2011، وهي الحكومة التي في ظلها تطور «الاقتصاد الموازي» للدويلة على حساب البلد، وفي ظلها استُبيحت الحدود وأخذت ميليشيا «حزب الله» لبنان إلى المقتلة السورية، وبدأت مرحلة اقتلاع البلد من موقعه ودوره، وإدارة الظهر إلى مصالحه، ليتحول إلى منصة إعلامية ضد المنطقة وصولاً إلى منصة صواريخ فمنصة «نترات» رمان الكبتاغون! الأمر الأكيد أن الإفراج عن التأليف، تم في لحظة تخدم طهران، التي «نُصحت» بالعودة السريعة إلى محادثات فيينا رغم الخلاف على جدول الأعمال، وهي اللحظة التي وُجِد فيها «حزب الله» عاجزاً عن تقديم الحلول، رغم التهريب وتدني أسعار السلع الإيرانية، و«بطاقة سجاد» و«القرض الحسن»، فقد ظهر التبرم في بيئته، لأن أوضاع ناسها تتدهور من قعرٍ إلى قعر كما كل اللبنانيين، فكانت حكومة «رئيسي – ماكرون» لإدارة الوضع، مع ثلاثة أثلاث معطلة يملك زمامها محلياً «حزب الله» المتحكم وحيداً بقرارها!
وارتبط إعلان الولادة الحكومية، التي لم تحمل جديداً عن حكومات المحاصصة والمحسوبيات السابقة غير أسماء الوزراء، مع ذروة الكوارث، ليبدأ التبشير مع ميقاتي بأنه لن يُفقد الأسبرين ولا البنادول، فيما يبشّر عون بقرب الحصول على بنزين ومازوت وخبز، ويفتح حاكم مصرف لبنان سلامة الاعتمادات لـ7 سفن من المشتقات البترولية، وظهر ترحيب بمنحى الخروج من العتمة الشاملة بالاستفادة من الغاز المصري واستجرار الكهرباء من الأردن عبر سوريا، ما دام هذا الخيار وسيلة للتطبيع مع نظام الأسد!
الحقيقة أنه قبل كمّ أفواه الوزراء، منح تهافت بعضهم على الكلام، كما تطاير الـ«سي في» لأكثر من وزير، صك تقدير لحكومة الـ97% إنجازات! نعم حكومة حسان دياب، التي بدت أكثر رصانة أمام المطروح بالتداول! لكن الموضوع ليس هنا! من شكل حكومة المتحاصصين الطائفيين هذه، قفز فوق الانهيارات والمنهبة والجريمة، ليوجه رسالة من جهة أولى تحمل الإصرار على تجاوز «17 تشرين»، واعتبار أنها لم تكن بقعة الضوء التي انتشرت في كل جهات لبنان، والمعبّر عنها بوعي، من خلال شعار «كلن يعني كلن» سبب إذلال الشعب اللبناني وانتهاك حقوقه وكرامته. ومن جهة ثانية أن «4 آب» انطوت ووحده مجلس النواب المنتخب وفق قانون زوّر إرادة الناخبين مرجع للعدالة والحقيقة! وأن زمن الإفلات من العقاب دائم كديمومة نظام المحاصصة الطائفي! وبالتالي آخر همهم الرأي العام، الذي كان التعبير الأخير عن موقفه، المظاهرة المليونية يوم مرور سنة على جريمة الحرب ضد بيروت، ويوم الإصرار على إسقاط الحصانات!
بعد سنة وشهر على سقوط حكومة حسان دياب، أعلنوا حكومة «الثورة المضادة» التي جمعت أسوأ تعبيرات حكومات المحسوبية من خلال أكثرية من المستشارين المندوبين برتبة وزراء. رهانهم أن تحالفهم مع المجاعة بعد الضغوط الحياتية والصعوبات المتراكمة، ويقابله إحياء الحالة الزبائنية من قوى الفساد، ستُقيد قوى التغيير، وتحول دون تمكنها من بلورة البديل السياسي المستند إلى ميزان قوى يمثل الأكثرية ويعبّر عن وجعها... فيسهم نهجهم في تلميع الصورة حتى الاستحقاق الانتخابي، لتستعيد الطبقة السياسية شرعية استرجعها الناس، مستغلة ترسانة متنوعة من فتات التقديمات ورشوة البطاقة الانتخابية!
التحدي كبير والحذر واجب، والصعوبات حقيقية، لكن «17 تشرين» ما زالت حجر الرحى والتغيير الذي أدخلته على الوعي العام يعوَّل عليه ومستمر وتدرك منظومة الفساد حضوره وتأثيره، رغم تخريب المتسلقين خصوصاً الباحثين عن موقع من أصحاب شعار اعطوهم فرصة (...)، وقد انهمك بعضهم في ترتيب ترشيحات نيابية وقد استسهلوا اللعب في ملعب حكومة «الثورة المضادة»!