بقلم : حنا صالح
مع أنه يرأس حكومة تصريف أعمال منذ 7 أشهر ونيف، وقف رئيسها حسان دياب مهدِّداً بـ«الاعتكاف»! وحكومته مستنكفة عن القيام بالحد الأدنى من مسؤوليتها، فلا هي وفّرت حبة دواء ولا حَمَت الرغيف وجبة اللبنانيين الأساسية. لقد كانت أمينة على تنفيذ المهمة التي من أجلها وُجدت، وهي معاقبة الذين تجرأوا على رفض السياسات الجائرة، لذلك بين أبرز «إنجازاتها» أن سعر صرف الدولار الذي كان 2000 ليرة يوم تألفت في 20 يناير (كانون الثاني) 2020 لامس يوم التهديد بالاعتكاف سقف الـ11000 ليرة!
منذ مايو (أيار) 2020 اقترح البنك الدولي، تحويل قرض الـ600 مليون دولار، المخصص لـ«سد بسري»، إلى تلبية احتياجات أولية للأسر الفقيرة، بعدما بيّنت دراسات موثوقة أن نسبة الفقر تجاوزت 60%! رفضت السلطة الاقتراح، لكنّ الحركة المدنية المدافعة عن البيئة أسقطت المشروع، فعادت الحكومة متأخرة تبحث عن قرضٍ ميسّر لدعم نحو ثلث الأسر اللبنانية بعدما بات 30% منهم في فقر مدقع، فكانت الموافقة على قرض الـ246 مليون دولار! مضى على القرار عدة أشهر ولم يصَر بعد لا إلى إقراره بقانون ولا إلى وضع اللوائح المدققة بالأسر الأكثر حاجة إلى الاستفادة!
طيلة هذه الفترة، كما قبل «17 تشرين»، يغيب مجلس النواب عن دوره وهو متخلٍّ أزلي عن التشريع والرقابة والمحاسبة. امتنع عن وضع قانون «كابيتال كونترول» رغم الزلزال المالي، فهرّب الفاسدون أموال اللبنانيين إلى الخارج. اتسع الحريق ولم يجد المجلس أي سبب لانعقاده ومحاولة إيجاد مَخرجٍ ما لواحدة من الأزمات! لكن للأمانة، اللجان النيابية التي ناقشت قرض الـ246 مليوناً رفضت ما عدّته مساً بالسيادة (...) لأن الجهة المانحة اشترطت الإشراف على التدقيق باللوائح وأوجه الصرف... والأمر مفهوم، فبعد افتضاح فساد السياسيين، لم تعد أي جهة دولية تأتمن السلطة اللبنانية على كرتونة إعاشة! طبعاً مَن تذرّعوا بحرصٍ على السيادة لطالما بلعوا ألسنتهم إزاء التدخلات الإيرانية، وإن كان البعض قد سأل مرة مَن أصدر التأشيرات لقادة من «الحشد الشعبي» تجولوا في الجنوب وهددوا من لبنان بتركيع العدو الإسرائيلي!
كان البلد يثور غضباً أمام انهيار الليرة المريع، و«ثورة 17 تشرين» الكامنة تستعيد كثيراً من ديناميتها، بينما صورة السلطة و«العهد القوي» ترتسم معالمهما من خلال دخان الإطارات المشتعلة، مع تفاقم عجز مسؤولين واصلوا الاستخفاف بوجع الناس! في المقابل لم يَفُت المحتجين شراسة منحى المحاصصة والاستئثار المغلفة بشعارات مثالية، فيما الممسك الفعلي بالقرار يواصل التهام البلد! يترأس ميشال عون اجتماعاً موسعاً لمجلس الدفاع الأعلى، ورغم أن هذه الهيئة ليست جهة قرار، أظهر فرمان باسم الاجتماع منحى انقلابياً وممارسة حكم رئاسي من خلال حكومة مستقيلة! فوردت عبارات من نوع: أوعز الرئيس، وقرر، وتوجه إلى الأجهزة الأمنية، في خرق فاضح لنصٍ دستوري يضع القوات المسلحة تحت سلطة مجلس الوزراء وليس رئيس الجمهورية! المهم أن الاجتماع نظّر على أزمة انهيار قيمة الليرة من زاوية تلاعب صرافين ينفّذون مؤامرة خارجية، وحمّل حصراً تطبيقات هاتفية تحليق سعر صرف الدولار (...)، ورأى في إقفال المحتجين للطرق ما يستهدف «الاستقرار» ويسيء إلى صورة الدولة ينبغي قمعه! وانتقل لـ«يُطمئن» الناس: «أتيت لأُحدث التغيير، ولن أتراجع، وماضٍ في برنامجي الإصلاحي مهما بلغت الضغوط»!
التغيير كما الإصلاح، خبره المواطن باكراً منذ ما كان التحالف مع ميليشيا مسلحة، باعتبار أن «حزب الله» لا يملك «العلم والخبر» المطلوب ليمارس عمله بشكل قانوني، وفق ملاحظة د. توفيق شمبور. وقد تجاهل عون من الأساس، تفاخر الأمين العام للحزب المذكور أنه جندي في جيش «الولي الفقيه»، وأن دولاً فاعلة تُدرجه على لوائح الإرهاب والجريمة المنظمة! ولم يتأخر عن تسديد الفواتير المسبقة لجائزة الرئاسة واللاحقة لها بتغطية اختطاف الدولة، وعزل البلد بإلحاقه بمحور الممانعة، إلى مسؤوليته عن سياسات حكومات الحريري بعد التسوية المشينة في عام 2016 التي عجّلت بالانهيار!
في هذه المرحلة اتسع تغوُّل الاقتصاد الموازي الذي أنشأه «حزب الله»، واستخدم لبنان كمَعبر للتخفيف من وطأة العقوبات على النظام السوري، فنشط «تهريب» السلع المدعومة عبر معابر مسيطَر عليها، ما رتّب استنزاف 5 مليارات دولار سنوياً وفق مصرف لبنان! والأخطر كان صمت من هو في موقع الشريك، عن نهج حوّل لبنان من موطن حريات وتنوع واختلاف ثقافات، إلى منصة صواريخ لاعتقاد راسخ أن في ذلك الطريق الأضمن لتوريث الرئاسة! وبالطبع كل ما كان هو تغيير إنما عكسي أوصل البلد إلى الحضيض!
غير أن الخطوة المتقدمة تمثلت في الضغط لجعل الجيش في خدمة منظومة الحكم وأهوائها كما في المحيط القريب، وتحميله أوزار العجز عن إيجاد الحلول، فتجددت الضغوط لوضع العسكريين بوجه أهلهم، فكانت لأول مرة سلسلة الردود من قائد الجيش الذي شبّه معاناة الناس بمعاناة العسكريين، وقال بـ«حماية حرية التعبير السلمي التي يرعاها الدستور والمواثيق الدولية»... وطالب بوقف حملات «التطويع، فهي لن تمرّ»، وأن التدخل في الترقيات ممنوع، ليطالب بوقف تجويع الجيش «لأنه يهدد تماسكه وفي ذلك نهاية للكيان»!
قال العماد جوزيف عون، قائد الجيش، إنه لا حلّ إلاّ بالسياسة. والأمر طبيعي فالجيش، كما كل اللبنانيين، يدفع ثمن العقم وبقاء البلد أشهراً طويلة من دون حكومة، وثمن غياب القرار والرؤية لسلطة تعيش حالة إنكار وانفصال عن الواقع وتتنصل من المسؤولية! وعلى الأرض برز سعي العسكريين إلى استيعاب الاحتجاج الشعبي الواسع، في خطوات مماثلة لما انتهجه الجيش بعد مقتل الرئيس رفيق الحريري، ما طرح الكثير من التساؤلات عن قدرة المؤسسة العسكرية على المواجهة مع المنظومة السياسية، أو هل أن شيئاً ما قيد التدبير يستغل قناعة شعبية بأن الجيش سيبقى العمود الفقري لاستعادة الدولة والدستور وحماية السيادة؟! يقولون لا، ليس من انقلاب على الأبواب فقد ولّى الزمن ولم يعرف لبنان مثل هذا المنحى وقت «ازدهر» في المنطقة. ويرجّح العارفون أن ما قد يَلوح في بعض العقول من طيف حكومة عسكرية، غير جدّي، نظراً لتركيبة البلد واستحالة التساكن، رغم يأس المجتمع الدولي من رياء منظومة الفساد. ويرى قريبون من عقل الجيش أنهم يعرفون أن مشاريع الحكومات العسكرية ما هي إلاّ وصفة لتعجيل الخراب، فهي لا تضمن استقراراً ولا تعيد أماناً ولا تسترجع ازدهاراً، والأكيد أنها تقفل الطرق أمام الحلول السياسية، وهي ضرورة وضمانة!
قد يكون لبنان أمام لحظة فارقة، تحتّم البحث عن مقاربة جديدة لكسر الحلقة المفرغة. فالثابت أنه ما من حلٍّ أمام تعسف سلطة «الحيتان»، المتمسكة بكراسيّ الحكم، إلاّ بحكومة مستقلة عن الطبقة السياسية تكتسب شرعيتها والثقة من الساحات التي وحّدت اللبنانيين، تكون درعها الواقية المؤسسة العسكرية، التي يريدون تحميلها ما ليس لها طاقة به، وإلاّ أيُّ منحى آخر سيعمّق الوجع ويُطيل مسيرة آلام اللبنانيين!