بقلم - حنا صالح
منذ عقدين ونيّف والمواطن اللبناني يتطلع إلى زمنِ تَحقُقِ الأحلام الوردية عن مستقبل لبنان، الذي يطفو على ثروات غازية ونفطية ستنقل البلد وأهله من حالٍ إلى حال. لكن على مدار السنوات الأخيرة، تنامى الخوف على مصير هذه الثروة، وكانت بداية المؤشرات المقلقة تقدم منحى المحاصصة الطائفية للثروة قبل اكتشافها، مع تسلط حكومة «القمصان السود» التي فرضها «حزب الله»، فراح الناس يجاهرون بضرورة بقائها مدفونة تحت البحر، كي لا يتم نهبها كما نُهب البلد وأُفقر شعبه، وصولاً إلى سابقة السطو على الودائع البنكية للمواطنين المتروكين تحت حصار العوز والجوع والمذلة.
ووقعت الواقعة، ففي اليوم الخامس من يونيو (حزيران) 2022 المصادف ذكرى مرور 55 سنة على هزيمة 5 يونيو 67 التي أسست لقيام منظومة «المقاومة والممانعة»، دقت الساعة للبنان، مع وصول سفينة التنقيب «اينرجن باور Energean Power» إلى حقل الغاز «كاريش» الذي يمتد إلى شمال الخط 29، خط الحدود التاريخية بين لبنان وفلسطين، التي أرستها اتفاقية «بوليه نيوكمب» في 7 أغسطس (آب) 1923.
بعد هزيمة 67، عمّ الابتهاج بأن الخسارة اقتصرت على الأرض وتم الحفاظ على الأنظمة! وفي 5 يونيو اللبناني تظّهّر التخلي عن السيادة والحدود، والثروة التي ستبدأ إسرائيل شفطها خلال أشهر قليلة. تم كل ذلك نتيجة صفقة محكمة، أنجزها الثلاثي المتسلط: «حزب الله» و«حركة أمل» وتيار الرئاسة «الوطني الحر» مع الموفد الأميركي أموس هوكشتاين! فتوفّرت ضمانة استمرار تسلط التحالف المافياوي وتجميد العقوبات الأميركية، مقابل رشوة أميركية لإسرائيل تُدفع من جيوب اللبنانيين، وقد ارتبطت بدايةً بمباحثات فيينا، وباتت اليوم واحدة من أوراق حرب الطاقة مع توسع حرب روسيا على أوكرانيا!
في زمن «الممانعة» في لبنان، عبرت سفينة التنقيب إلى شمال الخط 29 وتمركزت على مسافة 5 كلم جنوب الخط 23. باشرت شبك المنصة العائمة الأحدث في العالم، بالبنى التحتية، لتصبح إسرائيل على مسافة 4 أشهر كحدٍّ أقصى لبدء الإنتاج! في المقابل أصبح لبنان في موقع فقدان أبرز أوراق التفاوض دفاعاً عن حدوده وحقوقه! ارتبكت المقرات الرسمية، وانطلقت المواقف لذرِّ الرماد في العيون، فطلب رئيس الجمهورية من الجيش تزويده «بالمعطيات الدقيقة والرسمية ليُبنى على الشيء مقتضاه...»، وهال رئيس الحكومة ميقاتي «خطورة انتهاك العدو لمياهنا»! وأطل وزير الخارجية بوحبيب متلعثماً: «ما زلنا نفاوض»! وننتظر هوكشتاين لنسلمه ردنا! لكن «ما حصل في الـ48 ساعة كان مفاجئاً»! وأدان مكتبُ رئيس البرلمان بري العدوَّ «الذي تسلل إلى حقنا وسيادتنا وثرواتنا»، وقال نائب أمين عام «حزب الله» نعيم قاسم: «عندما تقول الدولة إن الإسرائيلي يعتدي على مياهنا ونفطنا فنحن حاضرون للضغط والردع واستخدام القوة»!
ما من لبناني انطلت عليه المزاعم التي روجوها، ومعها معسول الكلام عن الحقوق، فالناس طرحت الأسئلة عن الثمن وراء استسهال هدر السيادة والثروة. وأين المفاجأة وسفينة التنقيب انطلقت قبل 34 يوماً من سينغابور ولم تصل خلسة، وبالتأكيد ما كانت لتتحرك لولا ضمانات تبلغتها شركة التنقيب البريطانية – اليونانية، خصوصاً بعد انقضاء 417 يوماً على احتجاز القصر تعديل المرسوم 6433 الذي اعتمد الخط الوهمي 23، ما فرّط بالسيادة والثروة. وشكّل امتناع عون عن توقيع التعديل وإيداعه الأمم المتحدة، تفريطاً متعمداً بحقوق لبنان على أمل تحقيق مآرب باسيل برفع العقوبات عنه، والنتيجة بقاء الترسيم التاريخي للحدود معطَّلاً، بعدما كان قد تكرس في عصبة الأمم المتحدة في جنيف في 4 فبراير (شباط) عام 1924 بين بريطانيا المنتدبة على فلسطين وفرنسا المنتدبة على لبنان.
في لبنان الذي اختطفت طهران قراره قسراً عبر وكيلها «حزب الله»، بدأ باكراً التفريط بالحقوق والسيادة، يوم أقدمت حكومة «القمصان السود» على وضع المرسوم 6433 عام 2011 وأودعته الأمم المتحدة، تحت مسوغ تعديل أخطاءٍ وردت في الاتفاقية اللبنانية مع قبرص عام 2007 بشأن تقاسم المنطقة الاقتصادية الخالصة. والمستهجن أن التخلي عن الترسيم التاريخي تم رغم الدراسات البريطانية والعسكرية اللبنانية التي كانت على مكتب ميقاتي لكنه لم يأخذ بها، ووافقه عليها الرئيس ميشال سليمان! وتمسك المرسوم المذكور بخط وهمي اسمه 23 هو «صناعة إسرائيلية تبناها لبنان» وفق ما أعلنه العميد بسام ياسين رئيس الوفد التقني العسكري المفاوض، الذي أضاف أن الخط المنطلق من رأس الناقورة «(الخط 29) هو القانوني الذي يجب الانطلاق منه للتفاوض»، وأن «المطالبة بالحقوق لا تنفع إذا لم يتم توقيع تعديل المرسوم 6433».
وحده جبران باسيل الذي سبق له أن روّج لمشروع «التقاسم تحت الماء» وفق طرح هوكشتاين، هاجم ما عدها «حفلة المزايدات»، وأعلن أن «الخط الذي اعتمدته رسمياً الدولة اللبنانية منذ 10 سنوات وطالبت به بكل مكوناتها ومؤسساتها هو الخط 23»! وسخر من دعوات الاعتماد على القانون الدولي وقانون البحار، ومقدرات الدولة وجيشها، للحفاظ على حقوق لبنان عندما قال: «أي معادلة توازن بالخطوط أو الحقول تستوجب الاتكال على معادلة القوة مع إسرائيل التي فرضتها المقاومة»!
لقد تولى «حزب الله» تشكيل الحكومات منذ عام 2011، وتحكم بأدائها، وتغول على القرار بعد التسوية الرئاسية. كما أن حكومات سلام والحريري التي تلت «القمصان السود»، كما برلمان العام 2018، لم تتناول ذلك المرسوم، ولم تطلب أي جهة نيابية رؤية تداعياته. حتى إن مفاوضات الترسيم التي انطلقت في عام 2020 إثر إعلان الرئيس بري عن «اتفاق الإطار»، تجاهلت الخط 29 وتخلت عن مساحة 1430 كلم مربعاً وثروة تقدَّر بـ100 مليار دولار! فنبهت قيادة الجيش إلى الخلل، إثر الحملة الشعبية والعرائض التي رُفعت إلى الأمم المتحدة، فتم وضع مرسوم تعديل المرسوم 6433 الذي رفعته حكومة حسان دياب إلى القصر، فرُمي في الأدراج 417 يوماً قبل وصول سفينة التنقيب، وامتنعت لاحقاً حكومة ميقاتي عن إثارته!
كل الدجل والفجور السياسي عن منطقة متنازع عليها، لا قيمة قانونية له، لأن التخلي ثابت، ولا بديل عن تعديل المرسوم وإيداعه الأمم المتحدة، مهما كلّف الأمر من ضغوط أعلن تكتل نواب «17 تشرين» استعداده لممارستها من خلال البرلمان ومن خلال الشارع، وتوجه إلى السلطة التنفيذية يسأل: «لحساب مَن تهدرين هذه الحقوق اليوم؟» إنها خيانة وطنية موصوفة ارتكبها «تحالف كاريش» الذي يقوده «حزب الله»، وقد توّج هذه السياسة عندما أقدم يوم 5 مايو (أيار) الماضي على اتخاذ قرار في مجلس الوزراء بتأجيل التنقيب 3 سنوات ما يمنح العدو الوقت الكافي للانتهاء من حقل «كاريش» الذي يقع جزء كبير منه ضمن الحدود اللبنانية!