بقلم:حنا صالح
عندما ينعقد البرلمان اليوم الخميس 10 نوفمبر (تشرين الثاني)، في جلسة لانتخاب رئيس للجمهورية، سيتكرر الطابع الفولكلوري لهذه الجلسات الشكلية التي يراد منها تقطيع الوقت. فبدعة تأمين حضور الثلثين في كل الجلسات ستطيح بالنصاب، وهكذا يكون التعاطي مع اللبنانيين بأن الشغور الرئاسي من عاديات الأمور، وأن الفراغ في السلطة التنفيذية (مجلس الوزراء) بات ملازماً لأداء «حزب الله» القابض على قرار البلد، ويعتمده هذا المايسترو دورياً لقضم قدرات لبنان وإضعاف إمكانيات التغلب على أزماته!
ولئن تعذر على أصحاب مشروع الاقتلاع الكامل، الذهاب إلى «المثالثة» كبديل عن المناصفة بين الطوائف وفق اتفاق الطائف، ومسلم به أن عراقيل جدية تحاصر الرغبة بالذهاب إلى «مؤتمر تأسيسي»، فقد تقدم نهج الالتفاف على الدستور، لممارسة سياسة القضم وتجويف المؤسسات بالارتكاز على تعطيل مبرمج، أفضى إلى استتباع رئاسة الجمهورية وتقييد مجلس الوزراء وتآكل كل السلطة أمام هجمة الدويلة.
وفي السياق يستمر الرئيس بري بالدعوة إلى جلسات تشريع، ضارباً عرض الحائط بالمادة 75 من الدستور التي تعتبر البرلمان من 21 أكتوبر، «هيئة ناخبة لا هيئة اشتراعية، ويترتب على النواب انتخاب رئيس للجمهورية دون مناقشة أو القيام بأي عملٍ آخر». بذلك يتوفر لـ«حزب الله» الظروف لتلافي انعدام قدرته على فرض «توافق» على مرشح يرتاح إلى وجوده في القصر، فيأخذ وقته حتى يتعب فريق «معارضة الموالاة»، ليقبض على الاستحقاق، باعتبار الرئاسة مصيرية حماية لمكاسبه، وفي المقدمة سلاحه، وما انتزعه منذ غزوة بيروت عام 2008 ومؤتمر الدوحة، الذي منحه «الثلث المعطل»، فيقول القيادي إبراهيم أمين السيد: «لم نعد نحتاج إلى حرب من أجل الوصول إلى أهدافنا، يكفي معنا السلاح والموقف الشجاع».
التعطيل سلاح «حزب الله» فيجهض النصاب. ويدير بري مخطط استيعاب البرلمان الجديد، بإفشال المعارضة الرسمية وتظهير هشاشة الأوراق التي تمتلكها، ما دام متعذراً على أي فريق بمفرده تأمين نصاب الثلثين (86 نائباً)، أو امتلاك أكثرية النصف زائد واحد لدعم مرشحه (65 نائباً). ويتم القفز فوق واقع تقزيم مكانة البرلمان ومسخ شرعيته، عندما يتلكأ عن القيام بأول واجباته: انتخاب رئيس للجمهورية، لأنه خلافاً لدوره المحوري المثبت في الدستور، جعلته قوى الأمر الوقع مجرد غطاء لتغطية الارتكابات ومصادرة العدالة وقوننة الفساد، واعتماد اللامبالاة حيال تغول الدويلة على الدولة.
لا يرى «حزب الله» رغم تحول الانهيارات إلى كرة ثلج، وتمدد البؤس على الخارطة اللبنانية، أن الوقت سيف مسلط عليه، فراح يستثمر باتفاق الترسيم، الذي ما تحقق لولا تنازلات قدمت لإسرائيل عن السيادة والأمن وجزء كبير من الثروة. وترسخ القراءات المستقلة للترسيم، التي لم تغفل حجم الخسارة اللبنانية، أن «الحزب» فائز رئيسي مع بروز بصماته في عملية التفاوض، بعد إبعاد جهات الاختصاص والكفاءة، ما أوصل إلى اتفاق نصر الله - لابيد، لتبرز قناعة قوى خارجية، بأن لبنان باقٍ في محور الممانعة، خاضع لهيمنته! فتعلن السفيرة الأميركية شيا أنها «لا تجادل في أن (حزب الله) يمكن أن يكون براغماتياً أحياناً».
وللتدقيق أكثر، فإن «الحزب» ضمن المعطيات الراهنة والخلل الكبير بميزان القوى الوطني، لن يتخلى عن إمساكه زمام الأمور منفرداً، كما هو الحال منذ 6 سنوات نتيجة التسوية الرئاسية المشينة. والأكيد أنه لن يتراجع عن التصرف بالشأن العام بمعزل عن الجهات الرسمية، حيث هو من يحدد الأولويات والسياسات التي تلزم لبنان، فيتهجم أو يناصب العرب العداء ويستبيح الحدود، ويجعل لبنان منصة عدوان وتهريب للسموم، كما يحمي المرتكبين ويمارس فوقية حيال الآخرين، وبالمقابل تشيح «السلطة» النظر عن أدواره المتعددة وتمتنع عن التصرف باستقلالية عنه.
ستتفاقم الأزمة وتتسع الانهيارات والمجاعة ستطرق الأبواب في الشتاء البارد مع العتمة وتراجع القدرة على التدفئة، ما دام الاستئثار أولوية الممسك فعلياً بالسلطة، فيستثمر في الخراب والرهان على إشغال الناس بالبحث عن الرغيف والدواء. فيصر على تكريس لعبة «التفاهم» على مرشح واحد، أياً كان الثمن. ويمعن هذا الفريق في الممارسات الانقلابية على الدستور، بعدما كرس «الثلث المعطل» إلى «التوقيع الثالث»، الذي أضعف رئاسة الوزراء، وباتت شبه معلنة ملامح مشروعه الفعلي: حزب مذهبي يتسلط ويلغي المساواة بين الطوائف في الحكم وفق أحجامها! ومعروف المخطط الذي وصد الأبواب التي شرعها «الطائف» لإجراء انتخابات خارج القيد الطائفي كمدخل لتثبيت الدولة المدنية، ففرضوا الانتقال من الطائفية إلى المذهبية.
يقول الرئيس بري إن أولويته الانتخابات الرئاسية، ولا يحتمل الظرف شغوراً طويلاً، وإن «التراجع عن فكرة الحوار لا يعني نعي التوافق السياسي»... ويبدي الارتياح لإعلان جنبلاط أن البحث ينبغي أن يكون مفتوحاً تجاه كل الخيارات والأسماء مقدماً التوافق. وفيما يكرر جعجع الحديث عن أفضلية لقائد الجيش، يتأكد انتهاء زمن الترشيح المناورة (ترشيح معوض). فلا جعجع بوارد القبول بزعامة شمالية على كتفه، ولا هم لجنبلاط يفوق سعيه تحصين الزعامة والعصبية! لذا يبدو أن «معارضة» و«موالاة» النظام عشية الانتقال إلى مرحلة إعادة التفاوض على السلطة وتقاسم الحصص، وما حصل في السابق مرشح للتكرار!
ينبغي التنبه اليوم إلى نجاح الطبقة السياسية بتغييب النقاش الحقيقي، وتغييب الصراع المجتمعي، والتغاضي عن مسؤولية المتسلطين عما لحق بالناس من أذى وإيصال البلد إلى الحضيض. ولا بد من الإقرار أنه رغم التصويت العقابي الواسع، فإن نتائج الانتخابات فرضت تطبيعاً مع الأزمات لا يمكن تجاهله. لذلك عندما يضع جانباً نواب من تكتل تشرين مغزى حالة الاعتراض الوطني الكبيرة، ويهرول البعض باسم «الواقعية» و«السياسة» لحجز مقعد لدى «معارضة» النظام، وتطلق النعوت ضد التركيبة التشرينية، لتبرير الالتحاق، فإن الهدف طي الأولويات الأساسية للثورة، وصولاً إلى المشروع السياسي الذي تحدثت عنه المبادرة الرئاسية الإنقاذية ألا وهو قيام «الكتلة التاريخية»، لإنهاء الاختلال الوطني، وبلورة البديل السياسي ليكون ممكناً فرض حكومة مستقلة واستعادة الدولة المخطوفة وتحرير الجمهورية فتستعيد الرئاسة وهجها وتفتح ملفات المساءلة والمحاسبة وارتهان البلد أمام القضاء المستقل.
تقتضي المرحلة قراءة مختلفة، ومقاربة مغايرة، وأداء يحمل الجرأة والابتكار. لا أولوية تفوق جعل الرئاسيات محطة في سياق معركة التغيير الذي افتتحته ثورة تشرين، لإعادة استنهاض المواطنين دفاعاً عن مصالحهم ولاستعادة الدولة والدستور والمساواة بين اللبنانيين. المبادرة متوفرة مع التمسك بترشيح د. عصام خليفة بوجه «توافق» المتسلطين الآتي بالاتفاق مع الخارج. إن الذهاب بهذا الترشيح إلى الناس وخصوصاً الشباب، وإثارة الهموم الفعلية للمجتمع، هو ما يكتسب شرعية حقيقية من المواطنين، فيكسر الوفاق الإجماعي المزعوم خلف ترشيح سري مفروض، ويدافع عن دور البرلمان.