بقلم - حنا صالح
هبط الوحي فحدث الاختراق في جدار التعطيل الحكومي، واقتنع الجميع بالتشكيلة التي قدّمها ميقاتي قبل نحوٍ من 3 أشهر، والمتبقي تعديل طفيف لا يتناول الحصص، ولا الأسماء التي يتمسك بها كل طرف. تراجع عون عن تمرده، وما من اعتراض من سواه. نصر الله أعطى الإشارة: «لدينا آمال كبيرة... منعاً للدخول في نوعٍ من أنواع الفوضى»... وكأن أهوال الانهيار والانزلاقات القاتلة والتفجر الاجتماعي مجرد تفاصيل!
سيعني إعلان حكومة جديدة مطلع الأسبوع سحب الذرائع بشأن بقاء عون في بعبدا. كذلك التسليم بأنه لا انتخابات رئاسية خلال المهلة الدستورية. ووفق النائب عن الثورة، مارك ضو، فإن جولات «تكتل التغيير» لعرض «المبادرة الرئاسية» أكدت أن «إجراء الانتخاب الرئاسي في موعده الدستوري ليس أولوية لأي طرف!»، فشكّل الإفراج عن التأليف إعلاناً من جانب «حزب الله» بنهاية العهد، وتحددت الأولوية بقيام حكومة الشغور الرئاسي، الحكومة الطيّعة التابعة التي من خلالها سيواصل «حزب الله» تحكمه وتسلطه!
لذا بات الثابت أنه بعد 39 يوماً سيغادر عون القصر إلى النسيان، بعدما سجّل في تاريخ الرئاسات اللبنانية أنه كان رئيس عهد الانهيارات؛ من سقوط الليرة إلى انضمام أوساطٍ لبنانية إلى شعوب «قوارب الموت»، وبينهما زحف المجاعة مع وجود نحو 90 في المائة من السكان على خط الفقر. كما انهيار كل ما منح لبنان فائض قيمة، من التعليم والاستشفاء إلى قدرته الثقافية - الحضارية على التفاعل مع قيم العصر في الحداثة والحرية! والأخطر تمثل بتغطية رئاسة الجمهورية لمشروعٍ خارجي، استهدف تغيير وجه لبنان، مكانته ودوره وعلاقاته، وحاصر طموحات شعبه وصادر أحلامهم مع فرض مخطط الاقتلاع الخطير!
طيلة السنوات الست الماضية للعهد (ينتهي في 31 أكتوبر)، لم تكن الرئاسة اللبنانية إلا مجرد صدى لقرار يتخذ خارج المؤسسة الدستورية، لكنها احتفظت بدور الواجهة لمنح الأوسمة لمقربين أو أتباع، أو محطة لإصدار مراسيم تجنيس مدفوعة طالت بعض شذاذ الآفاق، أو كذلك لحجب توقيع الرئاسة على القوانين والمراسيم بذريعة عدم التوازن الطائفي، من تعيين نواطير أحراج إلى التشكيلات القضائية. ودوماً ارتبط التعطيل من خلال حجب التوقيع، بخلفية طائفية فئوية عندما لم تكن المصالح الخاصة مضمونة! لكنها على الدوام غطت تغول الدويلة والسلاح اللاشرعي ومُضي «حزب الله» في اختطاف الدولة والاستئثار بقرارها!
لقد تحولت السياسة في لبنان إلى ابتداع أشكالٍ لإدارة الفساد وتغطية الارتهان للخارج، والأمر هنا يتجاوز «العهد القوي» إلى العهود التي سبقته. أوجدوا المخارج لتنظيم السطو على مقدرات الدولة وسرقة المال الخاص. سقطت الصناعة المصرفية عندما لم تعد البنوك مكاناً آمناً للودائع، وتتالت محاولات قوننة الجرائم المالية، وتعامى القانون الممسوك عن النهب السافر، وتجاوز القضاء المُستتبع مسؤوليته في تأمين العدالة، ليتم رفع القوانين بوجه الموجوعين أصحاب المحاولات الفردية التي حاولت أخذ ما لها من حقوق بنفسها!
وفي زمن «العهد القوي» تظهرت الأزمات العميقة في إدارة الشأن العام، التي من مؤشراتها ترك القضايا دون علاجٍ لتتفجر، والدفع دونما كلل، إلى تفريغ المؤسسات وتجويفها. وبهذا السياق، كان واضحاً الميل الاستئثاري لدى فريق الرئاسة الذي لم يترك مناسبة إلا وأظهر ما لديه من جوع عتيق للهيمنة و«السلبطة» والاستئثار السياسي والمالي. وعرف «حزب الله» كيف يستثمر في هذا المنحى المفضوح الهادف إلى الإمساك بمواقع أساسية في الإدارة بوهم أنها ستمنحه تغطية الاستمرارية المستقبلية. وتعزز هذا الميل نتيجة تعليق العمل بالدستور وانخراط ثنائي «تفاهم مار مخايل» في مخطط استهداف اتفاق الطائف، وليس سراً توافق موقفي «حزب الله» والتيار العوني على رفض وثيقة الوفاق الوطني! والأكيد أن «الحزب» يعرف تعذر فرض تابعٍ له في الرئاسة، فيراهن على الوقت وعلى عجز الآخرين. ولأنه يعرف أن نصاب الثلثين (86 نائباً) ليس بيده، فتراجع عن المحاولة، لكنه لم يتراجع عن مشروعه لاقتلاع البلد!
لذا في سياق الطروحات الرئاسية، دعا نصر الله إلى «التوافق على اسم بعيداً عن الفيتوات»، وهو يعرف حجم رفض الذين يرون «التوافق» غطاء لمشروع يحمل مخاطر وجودية على الكيان اللبناني، وأن كل «تسوية» على هذه الشاكلة لن تُخرج لبنان من النفق، ووفق موازين القوى الحالية، لن تمر من دون دور وازن لملالي طهران من خلال حزبهم! إن أي نظرة متأنية تبين أن التقاسم الحالي في البرلمان لا يتيح وصول الرئيس «التحدي» أو «السيادي» ولا الرئيس «الممانع»!
على مدى العقدين الأخيرين، وبالأخص في حقبة التسويات الطائفية ما بعد العام 2005، والقبول بالبدع والفتاوى، تغول «حزب الله» على الدولة، ونجح في فرض سياسات همّشت المؤسسات وأضعفت السلطات، فانكشفت أزمة الحكم، فساور أصحابها الظنون أن لبنان بات ثمرة ناضجة آن أوان قطافها! ولا يبدو ظاهرياً أن صدمة نتائج الانتخابات أثّرت على المخطط المرسوم، فعادت تطلُّ الطروحات القديمة، ليعلن نصر الله أن «بناء دولة عادلة وقادرة بحاجة إلى نقاش، وحوار وطني واتفاقٍ على أساسيات تترجم في المجلس النيابي عبر قوانين، وفي مكانٍ ما تعديلات دستورية، إذا حصل اتفاق ما وإجماع عليها!».
يعني ذلك أن «حزب الله» يلوح مجدداً بـ«المؤتمر التأسيسي»، والهدف إحداث تغيير نوعي في بنية النظام، وقلب توازناته بعيداً عن تأثير الناس، وعن مدلولات انتخابات 15 مايو (أيار). والسؤال الذي يطرح نفسه؛ من هم الذين سيشكلون «المؤتمر التأسيسي»؟ وهل هناك في تركيبة نظام المحاصصة، وفق الكاتب رفيق خوري، غير «أهل الأزمة العاجزين عن تأليف حكومة وانتخاب رئيس، فهل بوسع هؤلاء تأسيس نظامٍ جديد»؟
لقد شكلت المبادرة الرئاسية لنواب الثورة تحولاً، لأنها نقلت النقاش من أي رئيس يريده «حزب الله» إلى أي رئيس يحتاجه البلد، لانتشاله وإنقاذه. لكن لا أوهام، ليس بقدرة هؤلاء النواب تغيير نهج القوى البرلمانية، وأي «تسوية» في ظلِّ موازين القوى الآنية ليست في مصلحة الناس والتغيير، ومتعذر الرهان على «صحوة ضمير» من تسلط واستبد ويتحمل مسؤولية الانهيارات، كما المسؤولية عن تغطية جريمة اختطاف الدولة، ويتشارك في مسؤولية حماية المدعى عليهم في جريمة المرفأ... لذا يكون استكمال المبادرة بالتوجه بشفافية إلى المواطنين، كمساهمة من نواب الثورة، مع جهود قوى تشرينية وازنة، تسعى إلى استعادة الناس دور اللاعب السياسي، ليصبح ممكناً فتح الطريق الرئاسية أمام شخصية مستقلة تتكئ على «كتلة تاريخية»!
المخاطر الوجودية التي تهدّد لبنان ليست جديدة، بل استفحلت وباتت نوعية، ولكنها ليست القدر الذي لا مفر منه. تتزايد لأنها لم تواجه. وبعدما رسمت ثورة تشرين معالم طريق المواجهة السلمية الناجحة، وأعادت تأكيده الانتخابات، ما من سبب يبرر التلكؤ في مشروع قيام «الكتلة التاريخية» العابرة للمناطق والطوائف، التي تجمع نخباً شبابية ونسائية إلى الحيثيات الشعبية. ولنتذكر أن كل ثورة تقف في منتصف الطريق مصيرها السقوط، والأكيد أن القوى التشرينية ستفاجئ المتسلطين وكل من يحتمى ببندقية لا شرعية!