بقلم - حنا صالح
مشى على سجادة حمراء مغادراً القصر، متكئاً على ذراع مرافقه، وبخطابٍ مفكك توجه إلى تياره ومناصريه ومريديه ليخاطبهم كرئيس للتيار الوطني، متناسياً أنه أقام في القصر الجمهوري 6 سنوات برتبة رئيس. لبس لبوس زعيم معارض، ليصب غضبه على «المنظومة»، وهي من حقق حلمه بالجلوس على كرسي الرئاسة بعد شغور نظمه «حزب الله» واستمر 30 شهراً، فكان أن حل الشغور على الشغور!
تعامل الرئيس السابق عون مع اللبنانيين وكأنهم أصحاب «ذاكرة سمكية»، فهاجم الشركاء في «نظام المحاصصة الحزبي الطائفي»، فوصفهم كمجموعة من السارقين الفاسدين، وحيّد نفسه ونزّه فريقه: «البلد مسروق بخزينته ومصرفه المركزي... ومؤسسات الدولة مهترئة». لم يأتِ بجديد، كان البنك الدولي في تقريره، أغسطس (آب) الماضي، قد وصف كل الطبقة السياسية بأنها مجموعة «بونزية»، لكن عون في يومه الأخير في السلطة والصورة السريالية التي رسمها أراد الفرار من وطأة المسؤولية عن الانهيار والفساد والاهتراء والإذلال اللاحق باللبنانيين، فالأمر من صنع سواه (...)، لذا توسل خطاب إنكار علّ اللغة والمضمون الاتهامي للأخصام السياسيين يحجبان مسؤوليته الشخصية عن الانهيار العام، ومسؤوليته عن وجود أكثرية لبنانية تواجه الهوان كل يوم، قال إنه سيرسلهم إلى الجحيم وفعل!
استغرقت مشهدية وداع كرسي الرئاسة نحو ساعة كاملة، كانت كافية لأن يقدم شخصه بلباس الزعامة، لمواصلة خداع أتباع كانوا وقوداً في معاركه. إنه الزعيم رغم خسارته كل الحروب التي ورّط فيها البلد، كما تغطيته اختطاف الدولة، وتسليمه قرار البلد لـ«حزب الله»! وهو الزعيم الذي يظن أن من حقه القفز فوق مسؤوليته عن جريمة العصر، جريمة تفجير المرفأ، التي وقعت في ظلِّ رئاسته وأدت إلى إبادة جماعية. كان يعلم وترك الناس ينامون وتحت الأسرّة ما يعادل قنبلة نووية، وكان بوسعه منع الجريمة ولم يفعل!
لقد بدت هذه الزعامة أشبه بنموذجٍ فريدٍ في بدائيته لممارسة المسؤول السياسة من خارج الدستور. كان المطلوب إشارة، أو ومضة، أو رؤية ما، توحي بإمكانية فتح كوة في الجدار الأسود لحماية المواطنين، فقدمت المشهدية إصراراً على ارتياح صاحبها بالغرق في العجز. لكنه الزعيم يطلق الوعود ويعد الأتباع بأن يحقق في الغد ما كان عليه أن يحققه وهو رئيس وفي موقع السلطة الشرعية: «المرحلة المقبلة تحتاج إلى كثير من العمل لكي نخرج من أزماتنا»! والطريق المنشود بعد احتراف التعطيل وهو في سدة الرئاسة، الذهاب إلى الذروة في خداع جمهور لم يتعلم شيئاً، فأعلن قبول استقالة حكومة تصريف الأعمال المستقيلة، مراهناً على إحداث صدمة تؤدي إلى فرط السلطة التنفيذية وتحدث فوضى وفراغاً دستورياً!
لم يكن سهلاً على عون القبول بوصد الأبواب أمام احتمال تمديد إقامته في القصر، ولا التسليم بأن الوضع بعد «ثورة تشرين» كما بعد نتائج الانتخابات لا يتيح فتح أبواب القصر لدخول جبران باسيل كخليفة له. وفي لحظة تظهرت الصورة، وتبين للناس أن الشخصية التي أقسمت على الدستور قبل 6 سنوات متعهدة بالدفاع عن البلد، وحماية مساره الدستوري والقانوني، مزّقت القسم، ولا هاجس لها إلّا الانتقام بإشعال خلافٍ دستوري، عبر الرهان على إجراء سياسي، ظنّ عون أنه سيكون كفيلاً بمفاقمة الشلل، مع نزع الشرعية عن حكومة تصريف الأعمال. فكان أن سقط بشرِّ أعماله فاستمرت الحكومة التي تولت صلاحيات الرئيس وكالة؛ لأن الحياة لا تقبل الفراغ، في بلدٍ تمركزت فيه كل السلطات بين أيدي مجلس الوزراء!
يعكس كل ذلك حقيقة أن النظام الطائفي، نظام المحاصصة، الذي اصطفته المافيا المرتهنة لمحور الممانعة، والمتسلطة على لبنان واللبنانيين، دخل مرحلة التداعي والهريان. دخل منذ زمن «خريف» عمره، لكنه ليس آيلاً للسقوط التلقائي، لذا ستتلاحق مظاهر الخروج على المألوف. فلبنان لم يعرف قيام سلطة مستقلة ويعيش شغوراً رئاسياً من بداية التسعينات، والمواطن الذي ذاق المر في السنوات الست الماضية، عبّر على طريقته بأن الشغور كان أرحم بالناس، وأن «التسوية» الرئاسية المشينة في عام 2016 ارتدّت وبالاً على لبنان، وكان من الأفضل إبقاء الشغور وعدم السير بها، وينبغي الحذر من تكرارها!
قبل 6 سنوات جرت المبادلة، ومقابل الانخراط بـ«التسوية» كان تعزيز الحصص والمكافآت لصناعها، وإن يكن الثمن الأكبر تسليم قرار البلد لحكام طهران عبر وكيلهم «حزب الله»! يومها تذرعوا بأنها حققت المصالحة المسيحية، وهي ضرورة لأنها تعالج إيجاباً التوتر السني الشيعي! وقالوا إنها ستحصن البلد، لكن الحصيلة معروفة انهيار وتشرذم وتفكك، وجزء من اللبنانيين انضم إلى شعوب قوارب الموت. ويروج اليوم بعض أطراف المنظومة أن الانتخاب الآن سيفتح طريق انتشال البلد فيسترجع موقعه، وينطلق اقتصاده مجدداً، وأن دخول رئيس جديد من دون إبطاء إلى القصر يمنع تفكك المتبقي من مؤسسات الدولة!
ومرة أخرى المعايير الطائفية الضيقة، والتمسك بنظام المحاصصة، وكل ما أنتج تجربة ميشال عون، هو أساس المعايير التي تم اعتمادها في ترشيح النائب ميشال معوض الذي وصف بأنه «سيادي» و«استقلالي»، وأسبغت عليه مواصفات نقيضة لما مثله عون. في العمق، لا يخرج هذا الترشيح عن سياق السعي لإحياء «نظام المحاصصة الطائفي»، وترسيخ المعايير الطائفية، ويكشف ضمناً أن أصحاب هذا الطرح، وهم ما زالوا بإطار المناورة، همهم تعزيز شراكتهم لأن التراجع في موقع التيار العوني آتٍ!
الأكيد أن إنقاذ لبنان ممكن عندما تتوفر إمكانية وصول رجل دولة إنقاذي، فيما من المتعذر بلوغ هذه المرحلة من دون تعديل حقيقي في ميزان القوى المختل لمصلحة «حزب الله»، يكون القاطرة لدعم التغيير. وبالتالي انتخاب أي شخصية ممانعة، أو ممن ينتمي إلى «معارضة موالاة النظام»، سيكون بمثابة الإصرار على إشغال الموقع الأول في الدولة، بشخصية بالكاد بوسعها المشاركة في إدارة الأزمة، فيما سيبقى قرار البلد عند قوى الأمر الواقع، وتلك اللاهثة وراء تجديد تجربة تعدد الكانتونات مقابل توسع الدويلة! وطبعاً التحديات كبيرة وهي متأتية عن إمعان المتسلطين باللعب في السياسة من خارج الدستور، ما رسخ الشغور وجعل الفراغ من عاديات الأمور، وكشف عمق أزمة نظام المحاصصة، وهدد بأزمة وجود. بعد أكثر من 3 عقود على «الطائف» تعذر الإصلاح، ما أدى بالمجتمع الدولي لنفض يده من كل التركيبة، فيما أحاديث إدخال تعديلات «دستورية» أو «تأسيسية» يراد منها تكريس صيغة الحكم الأسوأ تبعاً لرجحان ميزان القوى!
لا إنقاذ للبلد واستعادته لدوره ومكانته وكسر اقتلاعه، إلا بحكومة مستقلة تنبثق عن ميزان قوى شعبي حقيقي، سيكون متاحاً مع قيام «الكتلة التاريخية» العابرة للمناطق والطوائف، التي تعكس النسيج الوطني لـ«ثورة تشرين». ونواب الثورة الذين رشحوا للرئاسة د. عصام خليفة الرمز وصاحب الحيثية الوطنية والسيادية، رفضوا المعايير الطائفية، ورأوا أن الأولوية للإنقاذ وانتشال البلد واستعادته حياده الإيجابي وحيويته، تكون بجعل الرئاسة محطة في سياق المحطات التشرينية لاستنهاض مناخ «17 تشرين»، من أجل الحرية والكرامة والمحاسبة والإصلاح.
في هذه اللحظة حيث قدرة الثورة كبيرة على الفضح ومقصورة على التعطيل، فإن استعادة المناخ التشريني، تفترض تمايز نواب الثورة، وتمسكهم بقيمها، لبلورة ميزان القوى الجديد... وبمثل هذا النهج يمكن فتح أفق جديد للبنان في نهاية أكثر العهود سواداً التي مرت على اللبنانيين.