بقلم - حنا صالح
كثيرون اعتبروا أن ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل «بونس» في خدمة مصالح النظام الإيراني، استناداً إلى تسريبات عن الاتفاق، بعدما امتنع لبنان عن نشر الاتفاقية... وعموماً ساد التشكيك ومخاوف اللبنانيين من أن المنظومة التي يقودها «حزب الله»، وهدرت ودائع تفوق الـ120 مليار دولار، لا يمكن أن تؤتمن على ملف الثروة الغازية والنفطية. وليس سراً أن أمنيات المواطنين نحت إلى الأمل ببقاء الثروة الموعودة تحت البحر... حتى يأتي زمن يمكن توظيفها في خدمة انتشال لبنان من الجحيم وأهله من البؤس!
يوم الثلاثاء في الخامس عشر من نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، وقعت الواقعة. صدر بيان عن شركة «توتال» يعلن عن «اتفاق إطار» مع إسرائيل «بشأن حقل الغاز المشترك مع لبنان»! كانوا قد خبّروا الناس أن المطالب اللبنانية تحققت كاملة؛ إذ بفضل مسيّرات نصرالله رضخت تل أبيب، وأن الاتفاق السري الذي أبرم بعيداً عن أعين الناس، وعن مجلس النواب، قضى بمبادلة «كاريش» مقابل «قانا»، فأين هو الحقل المشترك؟ وكيف نبت؟
وتتالت ملامح فضيحة مدوية أظهرت استسلاماً مجانياً وتنازلاً عن السيادة والثروة، عندما تبين أن الاتفاق بين «توتال» وإسرائيل أكثر من مالي، بل وثيقة تؤكد حق إسرائيل في الاطلاع المسبق على كل البيانات، وحقها بمنح الموافقة من عدمها لاختيار شركاء «توتال»، وبيدها حق الفيتو على أي خطوة في كل البلوك اللبناني «رقم 9»، وليس ما يسمى تداخل «حقل قانا» مع البلوك الإسرائيلي «رقم 72»... والأمر البالغ الخطورة هو أن عمليات بدء الاستكشاف كما التنقيب حتى الإنتاج، لا يمكن أن تنطلق من دون ضوءٍ أخضر إسرائيلي!
التزم لبنان الرسمي الصمت وما زال، وطوى «حزب الله» الترويج لـ«انتصاراته الإلهية» وآخرها اتفاق الترسيم. بلع الكل ألسنتهم، بأمل تراجع الزوبعة التي أثارها بيان شركة «توتال». راهنوا على النسيان فيوميات اللبنانيين تحمل كل طلعة شمسٍ كماً كبيراً من المآسي. لكن اللافت كان التجاهل المتعمد لما كشفه مسبقاً د. عصام خليفة يوم 13 أكتوبر (تشرين الأول) عندما أعلن أن «لبنان لم يأخذ من هذه الاتفاقية الخط 23، بل أخذ ما دون ذلك أي ما يقارب خط هوف»، وهو يقع شمال الخط الـ23! وبالمناسبة فإن هذا الخط الأخير «خط إسرائيلي لا أساس علمياً أو قانونياً له»! والأخطر أن خليفة الذي قدم معطيات لا تقبل الدحض، أعلن أن «لا وجود لـ(حقل قانا) لأنه امتداد لـ(حقل كاريش) الذي كان ينبغي أن يكون لبنانياً!
الأمر الأكيد أن ما رسا عليه اتفاق الترسيم البحري مع إسرائيل هو كل شيء إلا أن يكون الاتفاق المنشود يحمي الحقوق، رغم أن زمن المفاوضات كان مثالياً ليحافظ لبنان على حقوقه. هل من زمن أفضل من الحاجة الأوروبية لسد نقص الغاز الروسي؟ وهل من ظروف أفضل للتفاوض مع أميركا، من لحظة توجه واشنطن إلى فنزويلا طلباً للمساعدة النفطية رغم العقوبات؟ وغض النظر عن إيران لضخ المزيد من الغاز والنفط أملاً بإلحاق الوجع بروسيا في حربها على أوكرانيا! أما ما قيل عن «انتصارات» تبين أنها تحققت لمصلحة إسرائيل التي ضمنت ترتيبات أمنية وثروات المتوسط، بعدما ثبّت الاتفاق ترسيماً وهمياً بين خط هوف والخط 23، وفرض على لبنان التخلي عن رأس الناقورة، حيث الرمز «B1» نقطة الحدود البرية!
بعد نحوٍ من 100 عام على قيام لبنان الكبير بحدوده التاريخية باتت هذه الحدود بين لبنان وإسرائيل معلقة، أو تم التخلي عنها. تقول الفقرة «ج» في الاتفاق إنهم سيجرون ترسيماً للحدود البرية. هنا الخطورة لأن ذلك يسقط الحدود المرسمة من عشرينات القرن الماضي، وفق اتفاقية «بوليه نوكومب»، التي رسّمت الحدود البرية مع فلسطين بالاتفاق بين الانتداب الفرنسي والبريطاني على البلدين، والتي أكدها اتفاق الهدنة بين لبنان وإسرائيل عام 1949! وتزداد مخاطر اتفاق الترسيم عندما ينص في الفقرة «د» أنه يمنع على لبنان تقديم إحداثيات جديدة للأمم المتحدة بشأن الترسيم البحري، ما يعني إصراراً على تكريس الجريمة المرتكبة!
لقد وقع المحظور قبل ذلك، فـ«اتفاق الإطار» الذي انتهت إليه المفاوضات التي تولاها نبيه بري، دون أي صلاحية دستورية أو قانونية، تجاهل اتفاقيتي «بوليه نوكومب» والهدنة، ليربط الترسيم البحري بالخط الأزرق للعام ألفين، الذي أبقى 13 نقطة خلافية لم تحسم! واللافت أنه رغم دراسة الاستشاري البريطاني (2011)، ودراسة الجيش في عام 2018، وكلاهما طلب طي صفحة الخط 23 الوهمي، تم إبعاد فريق التفاوض الكفء، وجرى تسليم الملف لسياسيين سماسرة، كواجهة مفاوضات كان يجريها «حزب الله»!
بعيداً عن الترسيم البحري جنوباً، غداة جريمة الحرب ضد بيروت، تبين أن كبار المسؤولين بدءاً من عون الرئيس السابق إلى سواه والقيادات العسكرية، كانوا يعلمون أن بيروت تنام على ما يعادل قنبلة نووية، ولم يبادروا إلى أي خطوة تحقن الدماء. ومعروف قول عون أنه علم خطياً قبل أسبوعين لكن «trop tard»! ومعروف أيضاً أنه بقدرة من فرض التكتم على وجود أطنان من «نيترات الأمونيوم»، جرى منذ سنة تعليق التحقيق العدلي. كما أن جرائم على صلة بالتفجير، جرت ربما لإزالة الشهود، كمقتل العقيد الجمركي سكاف، وزميله أبورجيلي، والمصور بجاني إلى الناشط السياسي لقمان سليم... كلها معلقة ولم يُحقق فيها!
في موضوع الترسيم التقت دراسة المكتب الاستشاري البريطاني مع دراسات الجيش اللبناني وباحثين على وجوب تثبيت الخط 29، لتؤكد أنه من غير الجائز أن يتم التفتيش عن حدودٍ للمنطقة الاقتصادية الخالصة خارج الحدود البرية. وبرزت التنبيهات بأن التخلي سيرفع كل أشكال الضغط عن شركة «آينرجين»، وبعدها لا شيء يجبر إسرائيل على الإقرار بحقوق لبنان.
وتم التذكير بما آل إليه الوضع في حقل «أفروديت» القبرصي الذي منعت تل أبيب التنقيب فيه منذ عام 2011. ورغم أن الحكومة السابقة اضطرت صيف عام 2020 إلى وضع مرسوم يعدل الـ6433 ليستعيد لبنان الخط 29، فإن الرئيس السابق عون احتجز المرسوم؛ لأن مفاوضات كانت تتم تحت الطاولة راهنت على رفع العقوبات عن جبران باسيل!
حققت إسرائيل باعتراف قادتها كل ما طالبت به أمنياً واقتصادياً، وتزامناً استعادت طهران 7 مليارات دولار، وجرى غض النظر عن العقوبات فرفعت صادراتها النفطية، وكان على لبنان أن يدفع من سيادته وثروته ثمن التوافق الذي كرّس الاعتراف بالحدود الإسرائيلية، لكنه أنهى ذرائع «حزب الله» للحفاظ على السلاح.
لا صورة أوضح عن تجليات الفساد والارتهان ومصادرة الحقيقة والعدالة، وهدر السيادة والثروة ليبقى لبنان ورقة في خدمة الخارج. يصنع ذلك «نخبة متسلطة تتحكم بمؤسسات الدولة ومواردها» وفق توصيف البنك الدولي! ويخبّرنا {حزب الله} بعد اتفاقية التطبيع الاقتصادي، أن حاضر لبنان ومستقبله سيبقى أسير معادلة السلاح لحماية السلاح، فلا قضية له بعد إلا مد زمن الهيمنة الفارسية، وأن هذا المنحى يتطلب إعادة تأهيل نظام المحاصصة الطائفي، أياً كانت الانهيارات التي تسحق اللبنانيين! إنه الإطار الذي تتم من خلاله وقائع مسرحية الرئاسيات لفرض من يريده «الحزب»، مستفيداً من الاختلال الوطني بميزان القوى!