بقلم - حنا صالح
كأنه لم يعد بكافٍ تحول لبنان إلى ملاذٍ آمنٍ لكل المرتكبين، من محكومين ومطلوبين وفارين من وجه العدالة. جملة إجراءات تم اتخاذها في الأيام القليلة الماضية، بدا معها أن المنظومة السياسية المصرفية الميليشياوية المسيطرة، مطمئنة لإحكام قبضتها على اللبنانيين الذين نهبوا وأفقروا، وانتهكت كراماتهم، وبحسبها هم رعايا وليسوا بمواطنين، فراحت تتحكم بهم من خارج آليات الدستور ومؤسسات الدولة، وتفتي من خارج القانون، وتتجبر وكأنها صاحبة حقٍّ إلهي يعود إليها التصرف دون حسيبٍ ورقيب بمقدرات البلد وحقوق المواطنين، ثرواتهم وحرياتهم!
تجتمع حكومة «حزب الله» التي يرأسها نجيب ميقاتي، فتتجاوز حد السلطة وتصدر تهريبة تشريعية لقانون «كابيتال كونترول»، بتأخير أكثر من 3 سنوات، ليأتي على مقاس مصالح الكارتل المصرفي! متجاهلة تحقيقات القضاء الأوروبي مع أركان «عصبة أشرار» وفق التسمية الفرنسية، تبدأ بالتزوير والسطو ولا تنتهي بتبييض الأموال! رغم ذلك تقر الحكومة قانوناً هو بمثابة عفوٍ عن الجرائم المالية وحماية للناهبين من الملاحقة في الداخل والخارج مع مفعول رجعي يطال الجرائم المرتكبة على المال العام والودائع!
وفي نفس التوقيت، يصدر حاكم المصرف المركزي رياض سلامة، تعميماً يحمل الرقم «165» يقونن من خلاله عمليات تبييض الأموال! تعميم يستكمل سياسة التدمير والخراب وتحويل لبنان إلى مجرد ساحة وأرضٍ يباس يسهل إحكام السيطرة على أهله وجعله كبلد لقمة سائغة للخارج الطامح بالسيطرة. بعد هذا التعميم سيكون من حق المصارف المفلسة، استقبال الحقائب المالية أياً كان مصدرها، وفتح حسابات لأصحابها وإتاحة التداول بها، وإجراء مقاصة مع مصرف لبنان الذي بموجب هذا التعميم يتحول لدور مصرفٍ مراسل، وذلك بعيداً عن رقابة البنوك المراسلة والجهات الرقابية الدولية! كل ذلك يعني فتح الأبواب على مصراعيها لاستقدام أموال المخدرات والأموال المشبوهة دون أي عائق، واللافت أن كل الجهات الرسمية والسياسية امتنعت عن تناول هذا التعميم الخطير وتجاهلت التداعيات المتأتية عنه!
سبق ذلك كله ما أقدم عليه مجلس نقابة المحامين، الذي قرر منع المحامين، دون إذنٍ مسبقٍ من النقيب، من أي إطلالة إعلامية، بما يحول دون تناولهم القضايا التي تطحن اللبنانيين من جريمة تفجير المرفأ إلى المنهبة والإفقار المبرمج! وبالمبدأ النقابة التي كان لها الباع الطويل في الدفاع عن الحريات العامة والخاصة، تقدم مجلسها صفوف المتسلطين لفرض كمِّ الأفواه، تحت طائلة فصل المعترضين؛ أي حرمانهم من حق مزاولة مهنة المحاماة! ولئن كان هذا القرار قد شكل انتهاكاً لحقوق المحامين الدستورية وحرياتهم الفردية والأساسية، في حين أن أخلاقيات المهنة لا يمكن أن تنتقص من حق المحامي في قول الحق والدفاع عنه... فإن مجلس النقابة لم يجد من يناصره لا في الداخل ولا الخارج؛ لأن المسألة وطنية وليست شأناً نقابياً!
على المنوال عينه يصدر وزير العدل القاضي هنري خوري تعاميم مفاجئة في مضمونها ومفضوحة في أهدافها، حملت تطاولاً على القضاء، وهو وفق الدستور سلطة مستقلة. في التعميم الأول دعا الوزير القضاة إلى «الامتناع عن الظهور الإعلامي بكل أشكاله من دون إذن مسبق من المرجع المختص»... وفي التعميم الثاني منع عليهم «التواصل المباشر وغير المباشر مع أي هيئة حكومية أو غير حكومية أو المشاركة بأي ورشة عمل»! فبدا أن المطلوب إسكات القضاة وعزل القضاء، في حين أن الثابت أن حرية القاضي بالتعبير حقٌّ من حقوقه الدستورية وضمانة بوجه التدخلات على أنواعها! ولئن رد «نادي القضاة» مذكراً الوزير بفصل السلطات واستقلال القضاء، اعتبر أن هذه التعاميم كأنها غير موجودة... لكن هناك «مكابشة» آتية ولا ريب!
تندرج هذه الخطوات كلها في سياقٍ واحد، ألا وهو تغطية الارتكابات الخطيرة، وتجديد النهج الذي ساد غداة الحرب الأهلية أيام احتلال جيش النظام السوري للبنان، يوم استلزمت الهيمنة الخارجية والتبعية الداخلية فرض كمٍّ للأفواه! واليوم تبدو منظومة التسلط بأمسّ الحاجة للذهاب بعيداً في تثبيت اللاعدالة، فتوسلت العودة لوضع القيود والعقبات التي يعتقدون أنها أنجع وسيلة لتدجين فئات طليعية في المجتمع.
في التوقيت اللبناني، لا تبدو هذه القرارات نهاية مطافٍ لهذا المنحى، ففي جعبة المتسلطين من البدع ما يتجاوز المعقول، وهم يراهنون لتمرير نهجهم وتحقيق أهدافهم على عنصرين: الأول انكشاف مواقف «معارضة» نظام المحاصصة من قضايا الحريات وحقوق الناس، وبالأخص الالتقاء مع «موالاة» النظام على السعي للسطو على أصول الدولة بحيث يدفع المسروقون جزية مرة ثانية للسارقين. والثاني الرهان على تعب الناس الذين يحاصرهم العوز وتهدد المجاعة بنهش أجسادهم، فباتت أولوياتهم الرغيف وحبة الدواء!
إسكات الناس ومحاصرتهم هما هاجس المتجبرين، وقد صُدموا بالبعثات القضائية الأوروبية تحقق في بيروت لمحاسبة بعض أخطر رموز «عصبة الأشرار» في المنظومة السياسية المصرفية والميليشياوية. ومن شأن هذه التحقيقات التي تتناول جرائم مالية تم ارتكابها في أوروبا، أن توفر خميرة جدية لملاحقات في الداخل آتية لا محالة، مهما تلاعبوا وزوروا ومنحوا الامتيازات والتسهيلات، فبعد ثورة «17 تشرين» التي أثبت المواطنون خلالها وبعدها، أنهم على الموعد في الانعطافات الكبرى، فإن زمن «الإفلات من العقاب» قد يكون على أفول، ومعه يسقط زمن «الحصانات»، ويطوي لبنان مرحلة لم تصل فيها التحقيقات في أي قضية كبرى إلى نتيجة، فقُيّدت دوماً تلك الجرائم ضد مجهول، وهو معلوم من الناس، الذين أثبتوا في الانتخابات كآخر محطة قياس للرأي، أنهم متمسكون باستعادة الدولة المخطوفة، وباستعادة الدستور والقوانين، واستعادة لبنان.