بقلم - حنا صالح
منفرداً أطل الرئيس اللبناني ليلة 13 أكتوبر (تشرين الأول) ليزف موافقته باسم لبنان، على اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، قافزاً فوق الإجراءات الضرورية التي تفرضها المادة 52 من الدستور، متى انتهى التفاوض إلى اتفاق. وعلى العموم، استمع المواطنون إلى خطاب انتصاري عن الترسيم «التاريخي»، أشبه بحلقة الابتهاج التي عبّر عنها رئيس الحكومة الإسرائيلية يائير لبيد والأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله، وأكملها الرئيس الأميركي جو بايدن عن «الاختراق التاريخي»، وانضمت إليها الرئاسة الفرنسية التي أعلنت، أن «الوساطة الأميركية ما كانت لتنجح من دوننا»!
قبل 18 يوماً على نهاية الولاية، اندفع عون لتوظيف «الإنجاز» في خانة فريقه المتهاوي، وتصفية الحسابات مع «المعرقلين» من أطراف نظام المحاصصة الطائفي! ولفت تأكيده إلى أن «المسيرة الشاقة» بدأت فعلياً في العام 2010 يوم كان جبران باسيل وزيراً للطاقة، ليلاقيه الأخير متباهياً عبر «رويترز» عن دور مزعوم له في محادثات الترسيم (...) وكأن كل ذلك، يصرف أنظار اللبنانيين عن أن هذه الولاية الرئاسية دخلت التاريخ كحقبة استباحة السيادة والتخلي عن الحقوق وإذلال اللبنانيين وتغطية الناهبين، وانكشاف لصوصية المتسلطين الذين ارتهنوا البلد وغطوا عزله عن محيطه واختطاف الدولة!
محوران في رسالة الموافقة على الترسيم التي «لم تتضمن تنازلات جوهرية» وفق عون: «تتجاوب الاتفاقية مع المطالب اللبنانية وتحفظ حقوقنا كاملة» (...) ولم يقم لبنان بـ«أي تطبيع ولم يعترف بخط الطفافات الذي استحدثته إسرائيل» (...)! لكن ما غاب كان الكثير.
فمن البداية تجاهل عون الإشارة إلى أن مفتاح الترسيم حدده بأنه اتفاق إذعانٍ كامل! ومؤدّاه أن عليهم نسيان المطالبة بما يرونه «حقاً»، والقبول بـ«تسوية» تمنحهم «أكثر مما في يدهم»؛ إذ «ليس في يدهم أي شيء»، وعليهم «القبول بما يُعرض عليهم»! لذلك غاب الخط 29، وتمّ التخلي عن تعديل المرسوم 6433 الذي جعل الخط الوهمي 23 حدوداً، وطويت المطالبة بالحقوق في «كاريش» الغني بالغاز، وكذلك مساحة 1430 كلم مربعاً من المياه الاقتصادية بين الخطين 23 و29!
وإلى هدر الحقوق بالثروة، تم القفز فوق «الأمر القائم» الذي فرضته تل أبيب بشأن «خط الطفافات» كخطٍ أمني، وهو يمتد شمال الخط 23، أي شمال رأس الناقورة وبعمق 5 كلم، ليلبي مطالب المؤسسة العسكرية الإسرائيلية على حساب السيادة اللبنانية! وكل الترضية للجانب اللبناني كانت تلاعباً لغوياً، بعدما ألح جبران باسيل على الترسيم والخروج من «قصة صارت واقفة على كلمة»!
ما يستوقف المتابع هو التباهي بالحقوق الكاملة، والاتفاق إذعان موصوف مبني على «حسن نية» العدو! فيقول الاتفاق، إن إسرائيل «لن تعترض على الأنشطة المعقولة والضرورية»، وإنها (إسرائيل) التي فرضت على المشغل (شركة التنقيب) توجيه «إشعار مسبق» لها قبل بدء التنفيذ العملي، «لن تمتنع من دون مبرر عن منح موافقتها الحفر الجاري وفق أحكام الاتفاق»! وفوق ذلك كله هناك «حصة» لإسرائيل في حقل «قانا» وكل البلوك «رقم 9»، ونص الاتفاق على أن حقوق إسرائيل المالية «ينبغي إتمامها قبل اتخاذ مشغل البلوك (رقم 9) قرار الاستثمار النهائي»! يعني اتفاقاً مبنياً على «حسن نية» العدو، والتعويل على «حكمه السليم» بأنه لن يعرقل، بتجاهل كامل للممارسة الإسرائيلية حيال قبرص في «حقل أفروديت»، الذي عطلته أجندة شروط إسرائيلية، ومعروف أن علاقات نيقوسيا بتل أبيب طبيعية ولا وجود لحالة عداء!
لقد أعلن عون الموافقة على اتفاقٍ خطير، فإلى التنازل المجاني عن مصالح لبنان وحقوق للبنانيين، مُنِح العدو الإسرائيلي اليد العليا للتقرير في حقوق لبنان التي باتت تحت وصاية العدو، وكيف لبيروت أن تتصرف بما يعود لها... ويهدد الاتفاق بتعطيل الحدود الدولية المرسمة عام 1923! والخطير، أن الموافقة تهريبة لن تُكشف تفاصيلها؛ إذ لن تعرض لا على مجلس الوزراء ولا على البرلمان! فقد ذكرت أوساط رئيس الحكومة أن الوزراء سيطلعون على الاتفاق «من دون اتخاذ أي قرارٍ بشأنه، لأن إقراره يعني اتفاقاً بين لبنان والعدو الذي لا نعترف به كدولة» (...) القرار في مجلس الوزراء «يعني التطبيع مع العدو»!
توازياً، طلب نواب الثورة اجتماعاً طارئاً لمجلس النواب؛ لأنه إن كانت «المادة 52 تولي رئيس البلاد المفاوضات، لكن حين تفضي المفاوضات لاتفاق يصبح الأمر خارج نطاق المادة 52». فالاتفاق «يتناول سيادة لبنان وثرواته ويتعلق بمالية الدولة ولا يجوز فسخه سنة فسنة، الأمر الذي يوجب إطلاع البرلمان على مضمونه لأخذ موافقته قبل إبرامه»؛ لأنه من دون ذلك سيكون هناك تعدٍ على سلطة المجلس النيابي وصلاحيته!
لقد رضخ المتسلطون لموجبات صفقة خارجية، فرّطوا في السيادة والحقوق، مقابل إعادة تأهيل الخارج لمنظومة مافياوية وتجديد صلاحيتها وتسلطها بعدما عرّتها الثورة. وهذا الدور ما كان ليتم خارج لعبة محكمة أدارها «حزب الله» خدمة للأجندة الموكلة إليه. إنه تذاكٍ في الترويج لدور مزعوم بالوقوف وراء الدولة ووراء المطالبة بالخط 23 لتغطية التنازل عن الـ29، وعن غاز لبنان في «كاريش» كي تمنح طهران حق رفع صادراتها من 400 ألف برميل يومياً إلى أكثر من مليون ونصف من دون عقوبات! وتذاكٍ في دعم المفاوض الرسمي، وهو مجرد ناقل رسائل بين نصر الله ولبيد عبر الوسيط ترجمة لتوافقات واشنطن - طهران (...) التي وفّرت الضمانات للحفارة الضخمة «آينرجن» التي وصلت آمنة منذ أشهر إلى «كاريش»!
لقد طوى الاتفاق صفحات التهديد بالحرب لأنه «ما في لعب بأمن الطاقة» وفتح باباً موارباً لسلام آتٍ. فرأت واشنطن أنه ينهِي النزاع الحدودي بين البلدين، امتدحه الدكتور جعجع لأنه «أفضل الممكن أو هو الممكن في الوقت الحاضر»، لكن هوكشتاين قزّم الأحلام بقوله، إنه يتيح للبنان «أن يستخرج من الغاز ما هو ضروري لتأمين الطاقة والكهرباء»، بمعنى أن لبنان سيُعطى الفتات وليس ما هو له، مقابل تجديد تسلط المافيا! ويوضح مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى ديفيد شنكر، أن «الشعب اللبناني هو الخاسر لأن الطبقة السياسية ستستأثر بالأموال من دون حسيب أو رقيب»! لا نقاش في حصة «حزب الله» بالثروة الموعودة، كما بقية واردات الدولة. ومصلحته تقضي بقاءه في الظل، فلا يعرض الاتفاق لا على البرلمان ولا الحكومة كي يبقى بمنأى عن موجب الموافقة العلنية، لزوم مواقف شعبوية ترضي جمهور موعود بالصلاة في القدس! ومن غير المستبعد، استناداً إلى الخلل الوطني في ميزان القوى، أن يفرض متغيرات في الحكومة المقبلة، وقد تتيح له العلاقة مع الفرنسيين تسلم وزارة النفط عبر وزير آخر يحمل كذلك الجنسية الفرنسية! فلا يعود من داعٍ لمؤتمر تأسيسي وصداعٍ مجاني!
تعامل الخارج مع الأمر الواقع وكل المنظومة السياسية من ممانعين و«سياديين» غطوا التنازلات المجانية، ومرة أخرى يتأكد للجميع، وخاصة من يراهن بعد على إمكانية إصلاح من الداخل، أن لا طريق لانتشال البلد إلا باستعادة الدولة المخطوفة وتحرير قرارها، والممر الإجباري قيام «الكتلة التاريخية» الشعبية المعبرة عن نسيج «ثورة تشرين» وتحمل قيمها، فتبلور البديل السياسي لمنظومة تتكئ على بندقية لا شرعية!