بقلم: حنا صالح
إلى أي هاوية يجري دفع لبنان؟ سؤال بات على كل شفة ولسان والأحداث الخطيرة تتلاحق. فبعد ظهر الأحد الأول من سبتمبر (أيلول) كان يوماً مغايراً لما سبقه، مئات السيارات ازدحمت على جسر الخردلي خارجة من الجنوب، مقاهي صور افتقدت روادها مع أنه يوم العطلة، وفي صيدا كانت السيارات المتجهة إلى بيروت تنطلق بسرعة فائقة... وحده النائب عن «حزب الله» حسن فضل الله راح يمتدح الاستقرار في أقصى الجنوب، نتيجة «رد المقاومة على العدو»، وبالتأكيد لم يفته أن المنطقة كادت تفرغ من كل سكانها!
مباشرة بعد أيام قليلة على تصنيف لبنان الائتماني فئة C، وضعت أميركا «جمال ترست بنك» على لائحة العقوبات بتهمة تمويل الإرهاب، وبينهما كان الخرق الإسرائيلي الفادح للقرار الدولي 1701 وتمثل بالاعتداء بطائرتين مسيّرتين على الضاحية الجنوبية، وهو تلا العدوان على «عقربة» جنوب دمشق الذي سقط فيه مهندسا طيران من «حزب الله» قال العدو إنهما كانا يشاركان في خطة «فيلق القدس» للاعتداء بطائرة مسيّرة على الداخل الإسرائيلي. وبالتزامن قدّم العدو مضبطة بالتواريخ والأسماء والصور عما تقوم به طهران في لبنان لتحويل صواريخ «حزب الله» إلى صواريخ «عالية الدقة»!!
القاسم المشترك في كل ما تقدم هو «حزب الله» والأجندة الإيرانية الموكلة إليه التي من غير الممكن أن يتمكن لبنان من تحمل الأعباء المتأتية عنها، فإن يتحدر البلد إلى مستوى الشك العالمي في قدرته على الإيفاء بتعهداته المالية أمرٌ توّج مساراً انحدارياً بدأ مع التسوية الرئاسية في عام 2016، التي سلّمت قرار البلد إلى «حزب الله»، فكانت النتيجة تراجع تصنيف البلد درجة كل سنة، يقابله تفاقم الديْن واتساع الاقتصاد الأسود، ما اضطر رئيس الحكومة للإعلان من واشنطن، في سياق وعوده بمكافحة التهريب، بأن لبنان سيستخدم أجهزة «سكانر» على المرفأ والمطار وسيقفل المعابر غير الشرعية وعددها الرسمي نحو 140 معبراً، وهو يعلم علم اليقين أنها تحت سيطرة الحزب، لكنه تعهد بأن النتيجة ستظهر في ميزانية عام 2020!!
قضية بنك جمال حساسة وبالغة الأهمية، رغم أن البنك المذكور هو أحد أصغر البنوك في لبنان، بحيث إن إجمالي موجوداته هي دون الـ900 مليون دولار أي ما يعادل 0.4 في المائة من حجم الودائع المصرفية، لكن رمزية القرار تستحق وقفة متأنية، تبدأ من حيثيات أوردتها الخزانة الأميركية أنه قبل إعلان العقوبات «تمّ العمل مع الحكومات الصديقة والبنوك العالمية على تجميد أصول البنك في الخارج»، وإن بات لزاماً على «الحكومة اللبنانية والمصرف المركزي تجميد كل أصول المصرف وإغلاقه وتصفيته وحل ديونه الشرعية لأصحاب الحسابات الأبرياء»... وتباعاً بثت شاشات التلفزة صوراً لمواطنين تعذّر عليهم سحب بعض مدخراتهم من آلات السحب العائدة للبنك المذكور التي باتت خارج الخدمة.
ما هو مهم في هذه المسألة، وفي سياق الإعلان الأميركي أن «عقوبات ستفرض على كل فردٍ أو مؤسسة تقدم دعماً لـ(حزب الله)، الذي لن نسمح له بمواصلة نشاطاته الخبيثة حول العالم»، كما أن البنك المذكور، أكثر زبائنه هم من الطائفة الشيعية، وأن إدارة البنك سعت لاستقطاب الودائع مع مغريات بفائدة مرتفعة، ما يعد بشكلٍ أو بآخر مؤشراً على دخول لبنان بشكل رسمي إلى المرحلة الخطرة من العقوبات الأميركية. هي مرحلة كثُر الحديث عنها سابقاً ويبدو أنها بدأت وقد تطال مؤسسات وشخصيات غير حزبية. إن في هذا القرار الذي سيفضي حتماً إلى تصفية البنك المذكور، رسالة أميركية إلى السلطة اللبنانية وإلى كل حلفاء «حزب الله» مفادها أن استمرار هذا المنحى مؤشر على تسريع أخذ البلد إلى الهاوية.
الأمر الأكيد الآن أن هذه المؤسسة المالية والمودعين الصغار القلقين، هم ضحايا المحاصصة الطائفية التي استسهلت إسقاط الدولة، وعندما يُطمئِن حاكم المصرف المركزي أن الحسابات الشرعية مؤمنة ألا يعني ذلك وجود حسابات غير شرعية فأين كان المصرف المركزي ولجنة الرقابة المالية؟ وسط هذا الاختناق، نفّذ «حزب الله» القرار المدروس الذي روّج له بأنه «أقل من حرب»؟ هجوم بثلاثة صواريخ دون إصابات لأنه أمر «مدروس جداً»، وردٌ «مدروس أيضاً» بـ100 قذيفة أشعلت الأحراج! من المبكر معرفة ما حصل وقد لا يعرف أحد، لكن ما أثار قلق الناس تمثل في غياب الدولة، رغم أن نصر الله كان قد أعلن قبل 24 ساعة أن «القرار بيد القادة الميدانيين»، فتحت أي عنوان يمكن القبول بالتغطية الرسمية لقرار من خارج المؤسسات يرتب أفدح المخاطر على البلد، ويجعل مصير اللبنانيين، حياتهم والممتلكات وجني العمر، معلقاً على قرار غير لبناني وما على المواطنين إلاّ تقبل النتائج والتداعيات والأثمان التي لا طاقة للبنانيين على تحملها!
لقد جرى زج لبنان في المواجهة المفتوحة بين أميركا وإيران، والتساهل بقبول خرق القرار الدولي 1701 وتعريضه للانهيار أمر مقلق، لأنه فقط في ظلِّه نعم الجنوب بالاستقرار، وبعد الحديث بأن بيروت واحدة من العواصم الأربع التي تهيمن عليها طهران، تم تثبيت لبنان ساحة مفتوحة متصلة بسوريا والعراق، وبوسع قاسم سليماني متى شاء فتح جبهة الجنوب، فالقرار الفعلي بيد طهران والعملية «المدروسة» أُريد منها تخفيف الضغط عن النظام الإيراني من جهة، ومن الجهة الأخرى تعزيز أوراق طهران التفاوضية التي بدأت في بياريتز، وما يثير الاستهجان هو أن كل أطراف التسوية ما زالت في النهج إيّاه، نهج التكيف مع هذه الإملاءات وانتظار الفتات! في هذا السياق لن يعود بقدرة سلطة تخلت عن دورها الدستوري إقناع العالم بدعم لبنان أو حتى تفهمه، أليس معبراً أن حصيلة اتصال الرئيس الحريري بوزير الخارجية الأميركي بومبيو تلاه بيان عن الخارجية الأميركية يدعم إسرائيل ويحذر «حزب الله» من مغبة أعماله؟ كما أن الدعم للبنان الذي أبرزته الجامعة العربية تضمن كذلك الاستهجان من أن يسمح لفئة بجر لبنان إلى الحرب!
البلد في عنق الزجاجة، وأهل التسوية السياسية كلما اجتمعوا ذهبوا إلى الإمعان باتخاذ القرارات التي تستهدف لقمة الناس، ولم يعر أحد الانتباه إلى مغزى المظاهرة الشبابية أمام السفارة الكندية طلباً للهجرة، في وقت لا يزال الإنقاذ متاحاً وألف باء المدخل إليه استعادة القرار السياسي ووقف خطف البلد، أما تسليم قرار البلد وتحميل الفئات الأضعف ثمن المحاصصة والفساد فهذا قد يعجل الحريق الذي لن ينجو منه أحد!