بقلم - حنا صالح
لم تكن رئاسة الجمهورية في لبنان مستقلة ومركزاً لتوجيه القرار والبوصلة لمسار البلد، منذ قُتِلَ رئيس الطائف، رينيه معوض، أول رئيس تم انتخابه بعد الحرب الأهلية. في «عهد» إلياس الهراوي الممدد 3 سنوات، كما «عهد» سلفه إميل لحود الممُدّد له أيضاً، كانت القرارات بين أيدي جنرال ممثلٍ لرأس النظام السوري، تحول مقر إقامته في عنجر إلى «قبلة» سياسيين طامحين اهترأت أرجلهم على طريق دمشق!
قوانين الانتخاب سُميت باسم المندوب السامي السوري؛ قانون غازي كنعان! كما وضعت تعديلات قانون «أصول المحاكمات الجزائية» في عنجر ليبصم عليها البرلمان، والأخطر قانون التجنيس الذي أضاف ما يزيد على 8 % على عدد اللبنانيين، وكانت أسماء الوزراء ترسل فور التكليف. والناس تتذكر أن الرئيس الهراوي أبلغ اللبنانيين وهو في طريق العودة من دمشق أن الأسد الأب اختار إميل لحود رئيساً، ويوم استضافت بيروت قمة استثنائية إثر تدمير إسرائيل معامل الكهرباء، طلب الرئيس مبارك من لحود الكلام في بداية القمة، فتلبك وتحدث بما تيسر، ليتبين أن كلمته كانت قيد «التنقيح» لدى الجانب السوري!
عموماً الرئاسة اللبنانية رغم كلِّ الهِنات قبل «العهد القوي»، لم تكن على هذا المستوى من الهزل، سواء مع الهراوي أو لحود زمن الاحتلال السوري، أو أيام الرئيس ميشال سليمان في مرحلة الهيمنة الإيرانية من خلال ميليشيا «حزب الله». لم تُقيدهم المصالح الضيقة الشخصية والحزبية... لكن الرئيس عون تصرف كطرفٍ منذ اليوم الأول مقدماً مصالح فريقه. كان رئيساً لتيار سياسي وشغل رئاسة الجمهورية، همه تمكين تياره السياسي، بأن تُحصر به الحصة المسيحية في الدولة، بعد الانقلاب على اتفاق معراب، اتفاق تقاسم الحصة المسيحية مع حزب القوات، كثمن لترشيح عون وانتخابه وهو مرشح «حزب الله» الوحيد!
ترك جيش النظام السوري هامشاً هشاً للرئاسة، مقابل استئثار دمشق بالقرار السياسي والمقدرات، حتى أخرجته «انتفاضة الاستقلال» عام 2005. أما في زمن «العهد القوي» صاحب «الحيثية» و«التمثيل»، فقد قايضت الرئاسة نفوذ فريقها وتقدمه على أطراف نظام المحاصصة، بتغاضيها عن تغول الدويلة التي أمسكت مفاصل السلطة، فراح نصر الله يتخذ القرارات ويملي السياسات والتوجهات من خارج أي إطار أو تشاور ولو شكلياً! حوّل «حزب الله» دويلته إلى كيان موازٍ، مستقل بقوته العسكرية وأدواته التنفيذية، ومستقل ببنيته الاقتصادية و«قرضه الحسن»، كما في محاكمه وسجونه، وفي استنساخ نظام «تعليم» إيراني خطير، وكذلك في السياسات التي يتبعها ومهامه الإقليمية كفصيل من «فيلق القدس» (...) واستمر داخل الدولة لحاجته إلى غطاء الشرعية والرئاسة، وتحكم في تأليف الحكومات وقراراتها منذ العام 2011!
لقد تعاملت الدويلة مع لبنان كمساحة جغرافية، أو جبهة متقدمة لحماية مشروع «ولاية الفقيه». والتزمت أجندة حكام طهران، أي جعل لبنان جزءاً من منطقة مستتبعة لدولة دينية مذهبية وإن كنا نعيش في القرن الـ21! ويبقى أفضل معبرٍ عن هذا المنحى إعلان الشيخ نعيم قاسم، في تبريره بقاء «المقاومة» بعد جلاء المحتل الإسرائيلي في 25 مايو (أيار) 2000، الذي أصبح عيداً للتحرير، فقال إن المقاومة «جاءت بسبب مبدأ لا ظرف والمبدأ لا يتغير وإن تغير الظرف»! والمبدأ الثابت هو بالتأكيد مشروع «ولاية الفقيه». وتباهى نصر الله بتبعية «حزبه» بالإعلان أن الجيش الذي أنشأه «طعامه وشرابه وسلاحه ورواتبه من إيران... ومهمة هذا الجيش منع تجدد الحرب الأهلية»، وكأن هناك ثارات مفتوحة بين الناس، تضبطها الميليشيا، فيما أنه أمام كل استعصاء كان يتم التهديد بالحرب، منذ البروفة الدموية لاحتلال بيروت في 7 مايو 2008!
إن هاجس «حزب الله» الرئيسي تشريع تغوله، وقوننة قضمه للسلطة، وتغطية الدولة المخطوفة بالسلاح، وقد تغاضى أطراف نظام المحاصصة الطائفي عن ذلك. وكانت التوقعات تفيد بأن ذلك مضمون، مع التوهم بأن ثورة «17 تشرين» خمدت وتراجع تأثيرها. فبلغ التشاوف حدّ إعلان نعيم قاسم أن «لبنان المقاومة والانتصارات، هو لبنان الذي نريده، فمن أراد الالتحاق به ومن لم يرد فليبحث عن حلٍ آخر»! واستبق نصر الله صناديق الاقتراع فأبلغ «حلفاءه» في إفطار رمضاني أن فرنجية سيكون الرئيس الذي يخلف عون!
قام المخطط على فرضية إيصال رئيس يستكمل النهج العوني، ما يضمن استمرارية تسلط «الحزب» ومتابعته مشروعه للهيمنة واقتلاع البلد. ويكون رجل «الحزب» في الرئاسة مطية الانتقال إلى لبنان الآخر الممانع! كل ذلك دونما الحاجة إلى طرح أي برنامج رئاسي، أو تصورِ حلٍ لأي معضلة، أو سعي إلى التخفيف من حدة الانهيارات، فما من شيء يدعو للتوقف أمام سلطات استنكفت عن مسؤوليتها في ضمان الحد الأدنى من حقوقٍ للناس بالكهرباء والغذاء والدواء والماء والتعليم... وحولت لبنان رصيف هجرة لمن يستطيع، فيما انضمت أعداد كبيرة إلى شعوب «قوارب الموت» هرباً من الجحيم المافياوي!
كل هذا المخطط انتكس لأن «ثورة تشرين» أحدثت الفارق مع الانخراط الواسع في الشأن السياسي، وتداول الناس أولويات مثل الفساد والنهب والمحاصصة واختطاف الدولة وارتهان البلد، إلى الانتخابات التي وجهت صفعة مدوية لكل القوى، مع التصويت العقابي الواسع الذي أدخل 13 نائباً يمثلون الثورة إلى البرلمان.
حدث تغيير جدي لكنه ليس كل التغيير المطلوب، والأكيد أن الرئاسيات هذا الخريف ستكون صعبة ومعقدة بعد فضيحة جلسة التشريع التي أسقطت مزاعم كتلٍ ونواب ادعوا السيادة والاستقلالية. فقد أسقطوا الخط 29 وهو خط الحدود والحقوق للبنانيين. وأفرغوا قانون السرية المصرفية من جوهره، ليصبح قانون عفوٍ عن الجرائم المالية، فبدت التصاريح والتغريدات عن الخط 29، وعن رجم الفساد، مزايدات تستهدف عصب قواعد شعبية صدّعتها حقائق كشفتها الثورة. وجاء تقرير البنك الدولي عن مخطط «بونزي» الذي بدأ منذ عقود، ليتهم «النخبة»، بكل أطرافها، بأنها نهبت موارد الدولة والودائع وتُحمل اللبنانيين المدمرين أوزار جرائمها المالية! لذا خوض المعركة الرئاسية ضرورة وينبغي استنباط عدتها، من برنامج الإنقاذ السياسي والمالي والاقتصادي وإحياء الدستور لاستعادة السيادة وحصر السلاح بيد الدولة، إلى تقديم المرشح المؤهل لحمل برنامج انتشال لبنان، وحماية الفئات المعدمة، والتأكيد على أولوية حقوق الفئات المهمشة.
الأرجح أن تعثراً أصاب مشروع «حزب الله» للرئاسة، والتهيئة جارية لشغور رئاسي طويل، والبعض يترقب خطوة انقلابية فيبقى عون عنوة في القصر، وهو بشّر بـ«ألاّ يكون مصير الانتخابات الرئاسية مماثلاً لتشكيل الحكومة»! ولأنه مستحيل فتح صفحة جديدة مع الوجوه القديمة الباهتة، فمن غير المقبول السير باقتراح ملء الفراغ المقيم بمن بالكاد بوسعه إدارة الأزمة، فيما يحتاج البلد إلى حلولٍ حقيقية. لذا البرنامج الإنقاذي كما المرشح، ضرورة لرفع وتيرة التأثير الشعبي في هذه المعركة المحورية، علماً بأن الواقعية تفترض ميزان قوى بديلاً لتحقيق هذا الهدف المثالي. إنما الوضوح السياسي سيسهم في بلورة «الكتلة التاريخية» والبديل السياسي، وفي تزايد تأثير نواب الثورة في مسار استعادة الدولة.