بقلم: حنا صالح
معروفة تلك المقولة: «إن الهندي الأحمر الجيد هو الهندي الأحمر الميت»، ومنها اقتبست غولدا مائير عبارتها الشهيرة: «الفلسطيني الجيد هو الفلسطيني الميت»، وعلى المنوال نفسه طوّر الفكرة إسحق رابين، عندما أمر جلاوزة الجيش الصهيوني المحتل بتحطيم أضلع أطفال ثورة الحجارة في فلسطين المحتلة. لكن الرئيس التركي رجب طيب إردوغان تفوق على الجميع في استهدافه الأكراد السوريين، بقوله: «إما أن يُدفنوا تحت التراب وإما أن يَقبلوا بالذل»!
العثماني الجديد الذي بزّ قاسم سليماني بالإيغال في التسبب في سفك الدم السوري، يسعى لاستنهاض زعامته على أشلاء سوريا وأهلها، وليس فقط الأكراد، وكشف تباعاً عن الأهداف التركية الدفينة بالتوسع في سوريا وعلى حساب السوريين، بذريعة الحفاظ على الأمن القومي التركي، وهو في هذا الظرف بالذات، بعد الهزيمة المدوية في إسطنبول، يسعى إلى تحقيق «إنجاز» على طريق تحقيق الأطماع التركية، ومن أجل صرف أنظار مواطنيه، بإدخال عناصر جديدة على جدول اهتمامات المواطن التركي.
منذ عام 2016، وبعد ضوء أخضر روسي، كانت عملية «درع الفرات»؛ حيث تمت السيطرة التركية على منطقة واسعة من الشمال السوري، من جرابلس إلى الباب وأعزاز... إلخ، بدأت أنقرة، التي أبرزت في رأس أولوياتها تمزيق المنطقة الكردية وتشتيت الأكراد بعيداً عن حدودها، فتح ملفات قديمة، والحديث عن وثائق تؤكد أحقيتها في بسط سيطرتها على 15 قرية في محافظة حلب المتاخمة للحدود. وكان لافتاً الادعاء أن جرابلس ومنبج مدينتان عثمانيتان. وانطلقت تركيا في تتريك المنطقة وتحكيم قوى «الإسلام السياسي» فيها، وربطها بالإدارة التركية وظيفياً ومالياً وتعليمياً، باعتماد المناهج التركية، فحلت اللغة التركية مكان الفرنسية!
بعد عملية «غصن الزيتون» في عام 2018، وإحكام السيطرة على عفرين، وبدء عملية تغيير ديموغرافي بتهجير نحو 150 ألفاً من أهلها الأكراد تحديداً، وإحلال مهجرين من الغوطتين مكان السكان الأصليين، وهم من مؤيدي الفصائل التابعة للجيش التركي، أعلن إردوغان أن «الأمن القومي التركي يتطلب السيطرة على أجزاء واسعة من كافة المناطق السورية - العراقية المحاذية لتركيا»! وبعد أن منح مسار آستانة لتركيا اليد العليا في محافظة إدلب التي تم تصنيفها كمنطقة «خفض تصعيد»، بدأت أنقرة إقامة جدار عارٍ إسمنتي يحاكي الجدار الصهيوني في فلسطين المحتلة، لعزل عفرين عن محيطها الجغرافي، لربطها أكثر بتركيا، وهددت بأن تمتد عملياتها العسكرية لتشمل منبج وشرق الفرات إلى عين العرب – كوباني، وتل أبيض ورأس العين، وصولاً إلى القامشلي، والهدف المعلن إبعاد الأكراد.
تزامنت هذه المطالبة مع الدور الاستثنائي الذي نهضت بأعبائه «قوات سوريا الديمقراطية» في تخليص شرق سوريا والمنطقة والعالم من إجرام «داعش» والقوى الإرهابية الشبيهة، فبدأ الموقف التركي في أحد وجوهه بمثابة الداعم للإرهاب التكفيري!
وضعت تركيا يدها على السلة الغذائية السورية، وعلى منوال الاحتلال الاستيطاني الإيراني اندفعت لإحداث تغييرات ديموغرافية، واتسعت عمليات تتريك المناطق الكردية، وباتت عفرين من دون أهلها، وأصبح تحرك أي مواطن سوري في مناطق الاحتلال التركي يتطلب إذناً من الحاكم التركي في كلس أو سواها! ومع القرار الأميركي المبدئي بالانسحاب من شرق الفرات، تحركت الأطماع التركية، والعنوان سحق الحركة الكردية بذريعة حماية الأمن القومي التركي، والهدف الأبعد وضع اليد التركية على الثروة السورية من نفط وغاز وماء، حتى يكون لأنقرة حصة الأسد في أي تسوية للمسألة السورية، وهي تسوية آتية حتماً، وستطوي حقبة هذا النظام الديكتاتوري، الذي سجّل حدثاً غير مسبوق لم يشهده قبلاً أي بلد في العالم، وهو اقتلاع شعبه وترحيل نحو نصف السوريين عن ديارهم، وتسهيل تجنيس وتوطين شذاذ الآفاق مكانهم!
إنها «المنطقة الآمنة» شرق الفرات، الهدف الذي وضعه إردوغان أمامه، فحرك الجيش التركي في اتجاه الحدود، وجيّش الفصائل السورية التي تأتمر بالسياسة التركية، وتلعب أبشع الأدوار في منطقة الاحتلال التركي.
الحقيقة أن أحداً لم يناقش كيف لدولة ما أن تفرض أطماعها الإمبراطورية على دولة أخرى، بالإصرار على استحداث جيب واسع تسيطر عليه في دولة جارة لها؟ طرحت الرئاسة التركية أطماعها على الروس والأميركيين، ورغم اختلاف المصالح والمنطلقات الروسية والأميركية تبدو الحصيلة متشابهة.
سحبت موسكو من الأدراج اتفاقية أضنة لعام 1998، التي تمنح تركيا حقاً في مطاردة عناصر «حزب العمال الكردستاني» نحو 5 كيلومترات في الأراضي السورية، شرط التطبيع السياسي مع النظام السوري، طبقاً لنص الاتفاقية. وواقع الحال هناك اليوم تطبيع أمني بين أنقرة ودمشق، فلم تجد تركيا ضالتها لدى روسيا التي تسعى لرسم حدود أدوار ونفوذ شركائها في مسار آستانة، رغم القلق الروسي من الحوارات الأميركية - التركية. ومنذ ذلك الوقت تخوض أنقرة مفاوضات مع الأميركيين، والعنوان التركي السيطرة على منطقة بعمق يتراوح بين 30 و35 كيلومتراً من شرق الفرات، أي نحو ثلث مساحة هذه المنطقة، لتتجاوز السيطرة التركية نسبة الـ20 في المائة من إجمالي المساحة السورية، على أن يتم إبعاد «قوات سوريا الديموقراطية» بعد تفكيك العمود الفقري لهذه القوات «وحدات حماية الشعب»، وهي القوة الكردية التي تستعديها أنقرة.
الحصيلة لم تكن أبداً مرضية لتركيا؛ لأن ما عرضه المفاوض الأميركي اقتصر على مسافة 5 كيلومترات، ودوريات مشتركة، على أن تخضع المنطقة أمنياً لقوات تابعة للتحالف الدولي تضمن أمن الحدود، ودون إحداث أي تغيير في وضع المدن الحدودية، مثل القامشلي وكوباني ورأس العين وتل أبيض والمالكية.
الرد التركي لم يتأخر، فقال جاويش أوغلو وزير الخارجية: «المقترحات الأميركية حول المنطقة الآمنة ليست بمستوى يرضي تركيا»، مهدداً بأن «صبر بلاده نفد»! لكن اللافت تمثل في المواقف التي أطلقها إردوغان، مستعيداً بعض أفكار النازي في عام 1939، عندما استباح هتلر حدود الدول المجاورة لألمانيا، فأعلن الرئيس التركي أن بلاده «ستدفن تحت التراب من يسعون لتشكيل ممر إرهابي على حدودها، بغض النظر عن نتيجة المباحثات مع الأميركيين»! وبدأ الاستنفار على جانبي الحدود والإصبع على الزناد!
في قمة العشرين الأخيرة، قال الرئيس ترمب: «إن إردوغان يريد أن يمحو الأكراد، وطلبت منه ألا يفعل (...)». لنتخيل بعد نحو من 75 سنة على انتهاء النازية، وبعد 70 سنة من الإرهاب الصهيوني الذي لم يحقق لإسرائيل الأمن، هناك رئيس دولة لم يتعظ ويستسهل لعبة الدم!