بقلم - حنا صالح
تغيّر الكثير في أداء الطبقة السياسية في لبنان بعد ثورة «17 تشرين»، وتغيّر الكثير من الممارسات بعد جريمة تفجير مرفأ بيروت، فالصفقات التي كانت تُمرر خلسة باتت علنية وبفجاجة. يتحدثون عن حاجة لبنان إلى نحو 20 مليار دولار لإطلاق خطة تعافٍ، والرهان أن صندوق النقد يمكن أن يوفر نحو 3 مليارات، في حين أن المتسلطين أهدروا بعد «ثورة تشرين»، ما يفوق الـ24 ملياراً هي بالأساس من ودائع مواطنين تم السطو عليها. افتُضِحَت المزاعم عن الإصلاح، ومن سابع المستحيلات، الإقدام على أي خطوة، مبادرة أو قرار، توحي بأن هناك من يحاول كبح الانهيارات لانتشال البلد.
ممارسات اللصوصية والنهب والاستتباع التي سرّعت الانفجار، أظهرت أن أطراف نظام المحاصصة الطائفي الغنائمي لا تقيم أي اعتبار للشأن العام ولمصالح المواطنين. كانت الحكومة الواجهة برئاسة حسان دياب قد استسلمت وتراجعت عن خطة «التعافي المالي والاقتصادي»، والتزمت المخطط المرسوم لاستنزاف الودائع، لتغطية التهريب والهدر لتمويل الاحتكارات والدويلة وميليشيات النظام السوري. ولم تخرج عن هذا المنحى حكومة «الثورة المضادة» برئاسة ميقاتي، بل تجاوزته إلى رفع كل أشكال الدعم من دون تأمين أي بدائل. أليس مدمراً أن مرضى السرطان ينتظرون الموت لاستحالة الحصول على الدواء والاستشفاء؟ وأن الموت يلاحق جرحى تفجير المرفأ فيتتالى قتل الضحايا بعد 20 شهراً على جريمة الإبادة لتعذر العلاج؟ ويتأكد أن للسلطة التي تخلت عن مسؤوليتها أولويات في مكان آخر، غير عابئة بأن لبنان انتقل بسرعة قياسية من وطن البحبوحة إلى الفقر، وبات أرضاً غير صالحة للعيش؟
بعد 3 عقود ونيف على قانون «العفو عن جرائم الحرب»، وهو الذي «قونن» فظائع الحرب الأهلية ما أسس للانقلاب على الدستور واستسهال الاستباحة، وترسيخ المحاصصة، تتجه الطبقة السياسية إلى تشريع قانون العفو عن الجرائم المالية، تحت مسمى «كابيتال كونترول»! هو قانون كان ينبغي إقراره لحظة بدء الانهيار وافتضاح المنهبة أواخر عام 2019، لكنهم لم يفعلوا، فمنحوا المنظومة السياسية المصرفية وكبار المودعين إمكانية تهريب الأموال! فجاءوا متلطين بالمباحثات مع صندوق النقد بمشروع قانون سيُفضي إلى انفجار اجتماعي، كونه يُحصِّن الكارتل المصرفي السياسي ومصرف لبنان ويمنع مقاضاتهم ويقونن السطو ويشطب 65 مليار دولار هي مدخرات المواطنين، منها مدخرات المتقاعدين والنقابات المهنية (أطباء، مهندسون، محامون وسواهم...) فيلغي بذلك آخر سبل حماية الأمن الاجتماعي!
عشية مرور 17 سنة على إخراج جيش احتلال النظام السوري (26 أبريل- نيسان 2005)، يعيش الناس خيبة كبيرة لأن توقعاتهم باستعادة الدولة الحديثة والدستور والعدالة وحكم القانون لم تتحقق، لأن المتسلطين التابعين قدموا مصالحهم وتحكموا عبر البدع والفتاوى. فكان أن تغول «حزب الله» على قرار البلد ومقدراته، مستتبعاً رئاسة الجمهورية التي وفّرت الغطاء للسلاح غير الشرعي، ومرتاحاً إلى تغطية ودعم وفّرهما الحريري وفريقه تحت عنوان «ربط نزاع»، والأمر مستمر مع قرار «تعليقه العمل السياسي»، إلى مجاراة الآخرين في نظام المحاصصة الغنائمي لما يريد، فوجد اللبناني نفسه محاصراً بالفقر واليأس والعوز، ومهدداً بمجاعة ما دفعه إلى محاولة الهرب، التي تكررت مع كثيرين، ربما هناك خلف البحار أفق آخر! ركبوا «قوارب الموت» وليسوا حالمين، فلبنان بات طارداً لهم، والأكيد أن المهجرين صاروا أكثر من المهاجرين!
فاجعة «زورق الموت» ليل 23 – 24 الجاري في مدينة طرابلس، وضعت لبنان أمام منعطف هو الأخطر مع بدء انتشال جثث الضحايا وبينهم أطفال في عمر الورود. الأكيد أنه ما من إنسان يضع أطفاله في قارب شبيه إلاّ إذا كان البحر أكثر أماناً من الوطن. لكن الفاجعة لم تبدّل شيئاً في التعاطي الرسمي، فوقفت السلطة موقف المتفرج مع تباهٍ بأنها تبحث عن الجثث، وتعاملت مع الضحايا أنهم أرقام: 7 أو 9 أو 14، وما من جهة تعلم العدد الذي كان على متن «زورق الموت»! فذهبت إلى تخصيص الرشى لإسكات الموجوعين، بديلاً عن الحقوق الممنوعة، وغياب للتعامل الجاد مع الغضب الذي يجتاح شرائح واسعة. لم تعترف بأي خطأ، ولم تعتذر، وتجاهلت مسؤوليتها عن سقوط الضحايا كسلطة قهر وهدم واقتلاع!
لكي تكون الأمور في موقعها الصحيح، فإن المرتكب الحقيقي للجريمة هو صاحب مشروع اقتلاع لبنان وإلحاقه بمحور الممانعة، وهو الممسك بخناق بلدٍ حوّله إلى مسلخٍ بشري، وفرض تجويف المؤسسات وصادر الحقيقة في جريمة تفجير المرفأ وعطل العدالة عمداً! إنه «حزب الله» الممسك بقرار البلد، عبر استئثاره برئاسة الجمهورية ورئاسة البرلمان وتحكمه بتأليف الحكومات منذ عام 2011. إنه المسؤول عن عزل لبنان واستباحة الحدود وتحويل البلد إلى منصة للسموم، ويتابع مشروع تأبيد تسلطه عبر منهجية إفقار الناس وقهرهم وخنقهم جوعاً أو غرقاً. كان في صدارة المستفيدين من قانون «العفو عن جرائم الحرب» وهو عبر «القرض الحسن» سيكون بين أبرز المستفيدين من قانون العفو عن الجرائم المالية!
في أي بلد يعيش تحت حكم القانون، لكانت الاستقالات توالت من أعلى الهرم إلى أصغر حارس رصيف بحري. لكن حيث يسود القانون وأحكام القضاء، لا تَرمي العائلات نفسها في البحر طمعاً برحمة من غرباء فوق شاطئ بعيد. ولنتذكر أنه لولا قانون العفو، لكانت افتضحت الجرائم والمقابر الجماعية وواجهوا المحاسبة، وكان لبنان بمنأى عن «المحاكم الخاصة» و«الحصانات» و«الإفلات من العقاب». ولو وُجِدت سلطة تنفيذية ممثِّلة للبنانيين بعد «ثورة تشرين»، وفرضت «كابيتال كونترول» قبل تهريب «الكابيتال»، وأجرت التدقيق الجنائي، وعلّقت «السرّية المصرفية» لكانت قد تظهرت شبكات الفساد، ولما كان رياض سلامة الملاحَق دولياً بتهم الإثراء غير المشروع وتبييض الأموال، متربعاً على قمة المصرف المركزي، يبدد أموال المودعين، متسلحاً بحماية الدويلة التي ضَمِن لها مصالحها، ولما تجرأ متّهم على الترشح للانتخابات!
الأسباب الموجبة لاستقالة المسؤول متوفرة، لكن علينا الإقرار بأن المتسلطين على اللبنانيين هم على الأعم في مواقعهم بفضل قوانين زوّرت التمثيل، ولا يشعرون بالضغط الذي يوجب استقالتهم. لكنّ المزاج الشعبي متغير رغم المال السياسي، و«الصوت التفضيلي» و«الحاصل»، الذي ربط علاقة الناخب بالمرشح مذهبياً وليس وطنياً في تصادم مع الدستور. ولأن الثورة ما زالت تتقد، والغضب يساور المواطن التواق لكسر القيود المذهبية، وتوفر للناخب البديل لوائح قوى التغيير في كل الدوائر تقريباً، فيمكن للتصويت العقابي أن يوفر الفرصة لكي يثأر الناس ممن جوّعهم وأذلهم وأمعن في انتهاك كرامتهم. إذ ذاك تكون «17 تشرين» بداية لن تخبو، و15 مايو (أيار) موعداً لمحطة مهمة، على طريق تحقيق نجاحات ملموسة نحو بلورة البديل السياسي، لاقتلاع الفاسدين الذين راكموا الخطايا وحوّلوا لبنان إلى مجتمع تسوُّل!