بقلم: حنا صالح
في الثلاثين من سبتمبر (أيلول) الماضي تمّ رسمياً افتتاح معبر القائم - البوكمال الذي يربط العراق بسوريا، ويشكل الكوريدور الذي تسعى إليه إيران لربط طهران بالضاحية الجنوبية لبيروت، ما يمنح الحرس الثوري أفضلية استراتيجية في الصراع على المنطقة وفي نهج حكام طهران ترسيخ الهلال الشيعي.
حكومتا دمشق وبغداد اعتبرتا الخطوة إعادة الحرارة للشريان الأساسي لحركة النقل والتجارة بين البلدين، لأنه على الدوام كان تجار الشام ينافسون بقوة التجار الأتراك والإيرانيين على السوق العراقية، لكن ما يجب التنبه إليه هو أن ما جرى كان إسباغ الشرعية على المعبر، لأن التنقلات العسكرية عبره كانت قائمة بإشراف ميليشيات الحرس الثوري منذ تمّ كسر «داعش»، وأساساً لم تنقطع هذه التنقلات إلا فترة سيطرة المنظمة الإرهابية، حيث استخدِمَ الممر الاستراتيجي في أنشطة «داعش» العسكرية والتجارية بين «ولايات» التنظيم.
منذ زمن شكل موضوع سيطرة الحرس الثوري على هذا المعبر أبرز هواجس القيادة الإيرانية، واستمر في أولوية اهتمامات طهران رغم تقلب الوضع فوق الميدان السوري والتنافس مع الروس من جهة، والقلق من الوجود الأميركي من جهة ثانية والحذر من اتساع المواجهات مع تل أبيب من جهة ثالثة، وبموازاة كل ما قيل عن دورٍ لـ«فيلق القدس» في الدفاع عن نظام بشار الأسد، فإن ذلك ارتبط بمخطط التمكن من توفير أسس متينة للسيطرة الإيرانية. الحكاية بدأت في سوريا مع سيطرة «حزب الله» على القصير، وبدء أوسع عملية اقتلاع سكاني لكل منطقة القلمون الغربي من جنوب حمص إلى حدود الجولان.
لأن معبر التنف على المثلث السوري - العراقي - الأردني مجاور للقاعدة الأميركية هناك جرى استبعاده، ومثله معبر اليعربية في الشمال حيث السيطرة لـ«قسد» وتالياً للأميركيين، ذهبت الأولوية إلى معبر القائم - البوكمال الذي يربط وسط سوريا بالعراق، وانتقل مخطط الحرس الثوري الهادف ربط إيران بالمتوسط من السيطرة على القصير إلى الانتقال باتجاه البادية السورية وتدمر، وصولاً إلى دير الزور والميادين والبوكمال. كل هذه المناطق من غرب سوريا إلى شرقها شهدت أوسع عملية تهجير للسكان وتلاحقت فيها حملات التشيع، وبالتالي التغيير المذهبي، وجرى تحويل دير الزور إلى مرتكز لحضور إيراني اقتصادي - تجاري - ثقافي، وركزت طهران على القبائل فاشترت الولاءات واستغلت بؤس الناس والفقر، فنظمت الميليشيات وجندت الشبان في صفوفها مع إغراءات برواتب 400 دولار ومنعت عمليات إلحاق هؤلاء بالجيش السوري... كل ذلك لجعل امتداد هذا الكوريدور بيئة حاضنة مرحبة بالوجود الإيراني!
أما على الجانب العراقي فالغياب الرسمي الحكومي كامل، لأن المنطقة منذ تحررت من «داعش» صارت تحت سيطرة «الحشد الشعبي»، وخصوصاً الفصائل الولائية المرتبطة بطهران يستخدمها قاسم سليماني بمعزل عن أي قرار من جانب الحكومة العراقية التي تسدد رواتب هذه الميليشيات وكل نفقاتها. وبالطبع معروف حجم النفوذ الإيراني ومدى التغول على قرار العراق وإمكاناته، حيث بلغ الفساد المحمي أرقاماً فلكية، وما على المواطن العراقي إلا دفع الثمن، وهو ما أشعل فتيل الاحتجاجات الحالية التي جمعت الشبان العراقيين المطالبين بمحاسبة الفاسدين والرافضين للنفوذ الإيراني فهدروا بصوتٍ واحد: «بغداد حرة حرة... إيران برا برا»، ليتزامن ذلك مع دعوة خامنئي الحرس الثوري للتمسك بـ«النظرة الواسعة العابرة للحدود» والتعاطي مع كل المنطقة بوصفها «العمق الاستراتيجي» لإيران، الأمر الذي يؤكد أن لا نهائيات في العراق ولا في سواها.
بعيداً عن التهاب الوضع في العراق، ما حدث هو أشبه بـ«طريق الحرير» الإيراني، محروس بالأذرع المسلحة من الجهتين والإمرة عليها تعود إلى الحرس الثوري. صحيح أنه يربط سوريا بالعراق، لكن مع استمرار الوضع المضطرب في البلدين وغياب البحث الحقيقي عن تسوية سياسية في سوريا، وحلول تعيد النازحين العراقيين إلى مناطقهم وخصوصاً الأنبار والموصل، تبقى وظيفته تأمين عناصر السيطرة على العراق وسوريا ولبنان، وتوفير هيمنة كاملة لطهران على مناطق متاخمة لشمال المملكة السعودية.
بهذا السياق، يكتسب هذا الجسر أهميته الكبرى مع بلوغ العقوبات الأميركية على النظام الإيراني الحد الأقصى، ليتحول إلى ممر آمن نسبياً لنقل الإمدادات العسكرية إلى حيث تدعي إيران أن حدودها الجغرافية هي بالضبط حدود انتشار الميليشيات التابعة لها، وصولاً إلى لبنان وغزة وصعدة (...)، ويتزامن ذلك مع تسريع طهران بناء مجمع عسكري كبير في القائم يراد منه أن يكون القاعدة الإيرانية الأكبر خارج إيران!
ويشكل «طريق الحرير» الإيراني هذا، الممر الذي تراهن عليه طهران لكسر العقوبات من خلال تهريب شحنات النفط والغاز بعيداً عن كل أشكال الرقابة الدولية، ولن يكون مستغرباً أن يواجه المجتمع الدولي تحدياً من حكم الملالي بمحاولة طهران بدء مد خط أنابيب نقل الغاز إلى المتوسط... الأمر الذي سيضع إيران في وضع صعب مع الروس، كما أن واشنطن لن تستسيغ ذلك!
وبالتأكيد عبر هذا الجسر ستنشط عمليات تهريب المخدرات إلى المنطقة وإلى أوروبا بنوعٍ خاص، وهذا أمر تخشى مخاطره الكثير من الجهات وهي تدرك وتعرف دور النظام الإيراني وأتباعه في هذا المجال، ويكفي أنه المتهم بأنه المصدر الرئيسي لإغراق العراق بالمخدرات وما تشهده مدينة البصرة نموذج فاضح.
الوضع خطير ونظام الملالي ممسك بالمبادرة، وهو ينطلق من قناعة جوهرها أن أي مراوحة في مواقفه ونهجه التفتيتي المدمر قد تشلُّ مشروعه، لذا نجده في سباق مع الوقت لتكريس وقائع يكون من الصعب الخلاص منها إلاّ بأثمانٍ كبيرة جداً، وأمر لافت أنه رغم السقوط المدوي للنموذج المعروف الإمبراطورية السوفياتية المدججة بالأسلحة النووية، هناك بعد في هذا العصر من لا يقيم وزناً لحياة الناس وآمالهم وأحلامهم، فيذهب لفرض معتقداته بالقوة، ساعياً بكل وسائل العنف والترهيب لقيام إمبراطورية جديدة ميزتها الوحيدة أنها تستند إلى أوهام!