بقلم - حنا صالح
على مسافة شهر واحد من 15 مايو (أيار) موعد إجراء الانتخابات النيابية، يبدو لبنان أمام أخطر منعطف؛ إما أن يأخذه لتكريس هيمنة نظام ملالي إيران، أو يضعه، رغم الصعوبات، على سكة التعافي، إذا ما وُضِعت الانتخابات البرلمانية في سياق كونها محطة أساسية بوسع تكاتف اللبنانيين كبح منحى المضي في اختطاف الدولة، لاستعادة القرار والبلد.
مفيد التنبّه إلى أنه يوم أمس، 13 أبريل (نيسان)، تم طي 47 سنة على بدء الحرب الأهلية. يتذكر اللبنانيون هذا التاريخ لكن ما من اتفاقٍ على تاريخٍ موحد لنهاية الاقتتال الأهلي، لأنه مع كلِّ اضطرابٍ داخلي تظهر هشاشة السلم الأهلي، رغم أن الكل يتذكر أن الحرب طحنت 150 ألف حياة، وتركت نحو 20 ألف معوَّق و20 ألف مفقود لم يعرف مصيرهم، وأحدثت تغييراً ديموغرافياً قسرياً طال ربع اللبنانيين، وهجّرت إلى الخارج ثلث السكان. وتلتقي المواقف التي تؤكد أن جذور تلك الحرب تعود إلى «اتفاق القاهرة»، عام 1969، عندما شرّع البرلمان التخلي الرسمي عن السيادة، ولم يعترض إلاّ ريمون إدة!
للتذكير، بدأت مرحلة السلم الأهلي المنقوص في خريف عام 1990، عندما اتحدت الطبقة السياسية المستنسخة من برلمانات ما قبل الحرب، مع من كان خلف المتاريس وإضافة نوعية تمثلت بالمافيا المالية، فكان الاستقواء بجيش النظام السوري المحتل، فابتدعوا قانون العفو عن جرائم الحرب، ونفذوا انقلاباً سياسياً كان المقدمة لنظام المحاصصة الطائفي شراكة مع النظام السوري. منع تطبيق الدستور كان أبرز معالم المرحلة، فيما كان تنفيذ القوانين يتم بشكلٍ استنسابي، فتفشى الفساد وسادت المحسوبيات والزبائنية، واستبيحت الحريات، وتعممت بورصة شراء المواقع النيابية والوزارية، ونُبذت الكفاءات، وابتدعت «المفاهيم» لتغطية مآرب النظام السوري من نوع: «شعب واحد في بلدين»، و«ما بين سوريا ولبنان لم يصنعه إنسان»! فعاد البلد ليكون رصيف هجرة للشباب والكفاءات لأن الطفرة المالية كانت مصطنعة، فاتسعت جغرافيا الفقر التي غطت عائدات الهجرة بعض احتياجاتها. وقبل نحوٍ من عقد بدأت تتزايد أعداد الذين يترحمون على سنوات الحرب السوداء، التي لم يُسجل خلالها أن مواطناً واحداً ضاقت به الدنيا فحرق نفسه حتى الموت، بعدما دمره العوز، كما فعل جورج زريق مطلع عام 2019، قبل «ثورة تشرين» بعدَّة أشهر، وتكرر الأمر مراراً بعد الثورة رفضاً للمذلة!
نجحت «انتفاضة الاستقلال» عام 2005، مستفيدة من ظروفٍ دولية، بإخراج جيش النظام السوري، لكن مَن تسلط على الانتفاضة خاف شعبه، فقفز إلى الاتفاق الرباعي مع «حزب الله» لتجديد المحاصصة الغنائمية للدولة، لتبدأ بعد ذلك، ما بين محطة الدوحة في عام 2008 وحكومة «القمصان السود» في عام 2011، مرحلة تغول الدويلة بوصفها وكيل هيمنة النظام الإيراني. تكررت الوجوه على مقاعد الحكم أو استنسخت، وكان الثابت انعدام الكفاءة وترسخ الاستزلام والتبعية. المجالس النيابية الهامشية شكلت مظلة سياسية لكارتل مصرفي - سياسي - «مقاوم»، حقق أرباحاً فلكية، نجمت عن نهب مقدرات الدولة عندما تحولت الوزارات إلى مغاور «علي بابا»، وعندما جفّ ضرع الدولة تم السطو على الودائع فكدسوا الأرباح اللاشرعية ووفروا تمويل الدويلة وازدهار الاقتصاد الموازي فكان تفاقم البطالة، واتساع أرقام الفقر!
بعد 32 سنة على بدء سلم أهلي ناقص، وبعدما سلمت الطبقة السياسية قيادها لـ«حزب الله» في عام 2016، سرّع نظام النهب الاهتراء، فدهمت الانهيارات اللبنانيين الذين انتقلوا بين طرفة عين وإغماضتها من البحبوحة والازدهار إلى العسر والتسوّل. لقد هال المتسلطين ما بلورَتْه ثورة «17 تشرين» من إمكانية مصالحة تجمع الموجوعين بوجه الظالمين، فكان الرد الاستثمار بالكراهية والأحقاد الطائفية، سلاح النظام الطائفي كي يستمر، وتستمر الدولة كبنيان ضعيف هش... إنه الرد على الكأس التي فاضت في «17 تشرين».
لم يستوقفهم عجز ميزان المدفوعات الذي بدأ منذ عام 2011، ولم يتبدل الأداء الرسمي. ادَّعوا أن «التسوية» عام 2016 التي سلمت البلد إلى «حزب الله» بانتخاب مرشحه رئيساً، ستؤدي إلى استقرار ينتشل الاقتصاد ويعيد الازدهار، فخسر لبنان الاستقرار والازدهار عندما زجَّه «حزب الله» في حروبه ضد بلدان المنطقة، بالوكالة عن «الحرس الثوري»، ليتحول لبنان مع الهيمنة الميليشياوية إلى منصة عدوان ضد دول الخليج ومنصة تصدير سموم، في استهداف متعمَّد للمجتمعات الخليجية... والاستفاقة «السيادية» المتأخرة لدى البعض لا تعفيهم من المسؤولية عن سياسة أدت إلى استتباع لبنان لمحور الممانعة، وما خلفته من تداعيات.
اليوم، عشية الاستحقاق البرلماني وبعده الاستحقاق الرئاسي في الخريف، تبلور الصراع بين محورين: ما مثلته «17 تشرين»، وما يمثله تحالف نظام المحاصصة، المحور المسؤول عن جريمة تفجير المرفأ في 4 أغسطس (آب)، مقابل الهبة الشعبية التي تلت الجريمة، للملمة الجراح وبلسمة العاصمة والإصرار على المحاسبة وتدفيع المرتكبين ثمن جرائمهم. وفي هذا السياق تتم المعركة الانتخابية، ووحده مشروع «17 تشرين» لاستعادة الدولة، نقيض مشروع الدويلة وما يحمله من مخاطر على الكيان والناس!
بعيداً عن الحملات المنظمة التي تغطي الشاشات وتسلم بترجيح فوز «حزب الله» وفريقه بالأكثرية، كأن ترتفع من الـ72 نائباً إلى 75، فيما هدفهم الحقيقي الفوز بثلثي البرلمان، لتكرار ما هو أخطر مما أقدم عليه البرلمان عام 1969 عندما تخلى عن السيادة! إنه تمكين «الحزب» من التحكّم بعد إجرائه تعديلات دستورية وإسباغ الشرعية على ميليشياته لتتحول إلى جيش بديل. غير أن منحى المعركة وتجرؤ قوى التغيير على مواجهته في «معاقله»، قلص من توقعاته الوردية، والأمور غير الثابتة يمكن أن تتغير إيجاباً، إثر انتعاش الوسط السني بعد إحباط متأتٍّ عن الأداء الذي اعتمده سعد الحريري وصب في طاحونة «حزب الله»!
لا تقليل من قوة «حزب الله» الذي نال في انتخابات عام 2018 نحو 265 ألف صوت، ومدّ أتباعه بنحو 20 ألف صوت، لكن كفى تخويفاً. إنه يتوجس ويخشى عواقب السياسات التي فرضها فاتسعت جغرافيا الفقر في «بيئته». لجأ إلى التخوين والتحريض والرشوة، لتكشف «الجمعية اللبنانية من أجل ديمقراطية الانتخابات» حجم ظاهرة الرشى التي يعتمدها عبر حملة «تصدّ للبطالة وبناء مساكن وتزويج متعسرين تطال 93 ألف شخص»، بالإضافة إلى تخصيص 18 مليون دولار و18 مليار ليرة «مساعدات معيشية تطال 215 ألف عائلة»! رغم ذلك ما زال قوياً وقادراً، لكن رهانه كبير على اتساع مروحة الرشاوى، والإحصاءات التي قالت بتراجع مؤيديه نحو 30 في المائة صحيحة، والتصويت العقابي لمصلحة قوى التغيير فرصة كي تتمكن «ثورة تشرين» من بدء مرحلة تكوين البديل السياسي لاستعادة البلد، والأكيد أن القوى الجديدة لن تفقد البوصلة.