بقلم - حنا صالح
لم يتخذ قرار التمديد السنوي للقوات الدولية العاملة في جنوب لبنان الأبعاد التي تحيط بالعملية هذا العام. على الدوام كان القرار يتم بعد مشاورات بين الجانب اللبناني والمنظمة الدولية، ونادراً ما كانت بيروت توفد وزير خارجيتها إلى نيويورك لتشاور مباشر، فما الذي استجد وحتّم ذهاب وزير الخارجية بوحبيب وإعلانه من نيويورك أن لبنان يرفض «نقل ولاية (اليونيفيل) من الفصل السادس وفق القرار 1701 إلى الفصل السابع» الذي يجيز للدوليين استعمال القوة؟ وهل طُرح فعلاً الفصل السابع؟
بداية لا بد من التذكير بأن الوجود الدولي في الجنوب بدأ إثر العدوان الإسرائيلي في عام 1978، الذي أُسميَه «عملية الليطاني» وكان التمديد يتم تلقائياً. تعزز الوجود الدولي بعد حرب تموز في عام 2006 تحت عنوان حفظ السلام والقدرة على المساهمة في فك الاشتباك، فحمل القرار 1701 بشأن «اليونيفيل»، صيغة وسطية بين الفصلين السادس والسابع. ومنذ صدور القرار استخدمت في بيروت عبارة الفصل السادس والنصف! وثابت أن الوجود الدولي ساهم في استقرار نسبي عرفه الجنوب بعدما كان دوماً على «صفيح ساخن»، ولعب دوراً محورياً في تحقيق ازدهار وإنماء هذه المنطقة أكثر من بقية مناطق لبنان!
وفق القرار الدولي، فإن المنطقة الواقعة بين نهر الليطاني والحدود الدولية، هي منطقة عمليات للدوليين، مفترض أن تكون منزوعة السلاح والمسلحين ما خلا الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي. لكن خلال المرحلة السابقة منذ أكثر من 10 سنوات تحول جنوب الليطاني إلى منطقة تخزين السلاح على أنواعه. والمعطيات المتواترة أظهرت وجود حشد مسلحين تحت عناوين ويافطات مختلفة. حتى إن الجانب الأميركي أنزل العقوبات مؤخراً بمنظمة «أخضر بلا حدود» بعدما صنفها كواجهة مالية أمنية لـ«حزب الله»، وهنا لا ننسى دلالات فصول استقبال «زيارات» بعض قادة «الحشد الشعبي» العراقي، في عملية استعراض للمدى الذي بلغه انتشار فصائل «فيلق القدس».
تتالت مناسبات إطلاق الصواريخ المجهولة المعلومة عبر الحدود الجنوبية، واستجلبت دوماً رداً إسرائيلياً واستنفاراً متبادلاً، ما أدى إلى عمليات نزوح قسري للمواطنين خوفاً من انزلاقٍ لمواجهة غير محسوبة. وتباعاً برز التمدد العسكري الميليشياوي من الأراضي المفتوحة إلى البلدات والبيوت، وتحول مخيم الرشيدية للاجئين الفلسطينيين المهيمن عليه من «حماس» إلى بؤرة خطر حقيقي على المقيمين في المخيم وجواره. وقرع اكتشاف الأنفاق التي أقامها «حزب الله» في المنطقة الحدودية ناقوس خطر، في وقت كان فيه العدو الإسرائيلي يفاقم من خروقاته للقرار 1701 فيستبيح يومياً الأجواء اللبنانية، وينفذ عبرها الاعتداءات على الأراضي السورية. وكان اللافت الغياب الكبير للدولة وأجهزتها العسكرية والأمنية بحيث سادت حالة تطويع في مواجهة التحركات العسكرية، وليس سراً أن «التحقيقات» في إطلاق الصواريخ أو بعض التفجيرات كانت تتأخر كثيراً بانتظار ضوءٍ أخضر من قوة الأمر الواقع التي يجسدها «حزب الله»!
وسط هذه الأجواء، وفي ظلِّ ضغوط أميركية - إسرائيلية وغياب أي اعتراض دولي، حمل تمديد مهام اليونيفيل في 31 أغسطس (آب) 2022 تعديلاً بالغ الأهمية، تمثل بإضافة المادة 16 على قرار التمديد الذي حمل رقم 2560. يجيز التعديل للقوات الدولية أن تقوم بدورها في الاستطلاع والتفتيش والتحرك في المنطقة دون إذن أو تنسيقٍ مع الجانب اللبناني، بما في ذلك مع الجيش، الذي يرافق هذه القوات... لكن على أرض الواقع نادراً ما قامت وحدات «اليونيفيل» بخطوات منفردة، ربما تلافياً للاستهدافات المنظمة من «الأهالي» التي تكثفت عند كل محاولة استطلاع وتفتيش لمنطقة تعتبرها القيادة الدولية مشبوهة!
ما يجري ومستمر حتى الساعات الأخيرة قبل قرار التمديد، محاولة من «حزب الله» إلغاء المادة 16 والعودة بقرار تمديد مهام الدوليين إلى ما كان عليه قبل العام الماضي. أوكل «الحزب» إلى حكومته التي يرأسها نجيب ميقاتي تنفيذ هذه الرغبة، فأوفد الأخير وزير خارجية تصريف الأعمال إلى نيويورك. أمران يريدهما «حزب الله»، وكلاهما مرتبط بدوره الداخلي ونفوذه في الإقليم. الأمر الأول آني، ومتمثل بمطلب رفع كل القيود عن تحركاته ونشاطاته جنوب الليطاني، بإبقاء دور القوى العسكرية والأمنية شكلياً وتحجيم دور القوات الدولية، ليبقى الجنوب ورقة في خدمة أجندة مصالح الآخرين، أي مصالح الهيمنة الإيرانية.
أما الأمر الثاني فيحمل قلقاً من بقاء المادة 16، التي وفق جهات سياسية عليمة، تمثل برأي «الحزب» سنداً قانونياً لخطوات ما دولية في المستقبل. فـ«حزب الله» ومن خلفه نظام الملالي، في توجس حيال ما يجري في البوكمال وما يرد من معطيات عن إقفال طريق طهران - المتوسط، ويزداد التوجس مع المناخ المستجد في سوريا. ليس تفصيلاً هو التحرك الشعبي الذي أطلقه أحرار السويداء ويشق طريقه في الجنوب السوري ونحو دمشق والشمال، في أسطع تأكيد على عجز إسرائيل وكل قوى الاحتلال والتبعية الداخلية عن التخلص من الشعب السوري وتوقه الاستقلالي!
بالتأكيد تغيب المصلحة الوطنية عند الإصرار على إبقاء الجنوب ومعه لبنان ورقة في ملف مصالح قوى خارجية طامحة للهيمنة؟ فما يشهده لبنان، فاصل في سياقٍ لم ينقطع من نهج رسمي قدم كل التغطية لمخطط «حزب الله» اختطاف الدولة والاستئثار بالقرار. فـ«الحزب» المستخف باستقرار الجنوب وأمان أهله سبق له وأن استباح الحدود واستقرار البلد، والتهديد اليوم بجعل القرار «حبراً على ورق» سيؤرق ليل الجنوبيين وكل اللبنانيين لا أكثر. وفي هذا الفاصل وجه من وجوه السياسات المتبعة التي تستثمر في الشغور الرئاسي والفراغ في السلطة وحجب العدالة وحماية نظام «الإفلات من العقاب». وفي كل ذلك، ومعه ما يشهده لبنان من استهدافٍ للحريات والحقوق وتشجيع مظاهر انفلات ميليشياوي، تعبير عن المدى الذي بلغه السقوط السياسي والأخلاقي الذي يمعن في اغتيال الدولة وقتلها كل يوم!