بقلم - حنا صالح
تنعقد اليوم وغداً قمة حلف شمال الأطلسي في فيلنيوس عاصمة ليتوانيا. التوقيت مثالي لقراءة متأنية للوضع الدولي، ونتائج الحرب الروسية على أوكرانيا وتداعياتها على دول «الناتو»، وبالأخص البلدان الأوروبية التي تشهد توترات اجتماعية واسعة على خلفية الحرب التي جرفت كل القوى الدولية إلى أتونها!
تنعقد القمة على وقع تعثر الهجوم الأوكراني المضاد الذي صدم حكومة كييف، وجاء عكس تطلعات الغرب؛ فالتقدم المتواضع جداً، تحرير 107 كيلومترات مربعة من نحو 100 ألف كيلومتر تحت السيطرة الروسية، كلّف أوكرانيا ثمناً بشرياً كبيراً، وأتى على أكثر من ربع الأسلحة الغربية الحديثة التي زُوِّد بها الجيش الأوكراني. لكن الأخطر أن هذه الحرب المروعة يمكن أن تتوسع في أي لحظة إلى حربٍ شاملة. وأي خطأ في الحساب، مقصوداً كان أم غير مقصود، يهدد بكارثة نووية! موسكو وكييف تتبادلان الاتهامات بشأن مخططات تستهدف محطة «زابوريجيا» النووية. كما لا يبدو من تصريحات الرئيس الروسي السابق ميدفيدف أي قلق من الخيار النووي، ولم تكلف أي جهة عناء الإجابة عن السؤال: ماذا عن اليوم التالي إذا ما رجح هذا الاختيار؟!
عشية القمة لفت الانتباه رئيس ليتوانيا، الدولة المضيفة، بأنه على قمة الأطلسي في مواجهة الحرب الروسية تأكيد الوحدة والتضامن مع أوكرانيا، والتزام الدفاع الجماعي. وسلط وزير خارجيته الضوء على أمن الجناح الشرقي للحلف، وتوجيه رسالة بأن «ضمان أمن منطقة البلطيق مهم للحلفاء». ولأن جدول الأعمال يركز على قضايا الردع والدفاع وزيادة استثمار في الإنفاق الدفاعي لا يقل عن 2 في المائة من الناتج الإجمالي لدول الحلف، فإن طرق الدبلوماسية والحوار بحثاً عن حلول صعبة تحقن الدماء وتوقف الدمار تبدو مقفلة، وما من جهة تحدثت عنها. وعلى الأرجح أنه بمعزل عن التطورات الميدانية، ستجدد قمة الأطلسي التعهد بمواصلة الدعم المادي والعسكري لأوكرانيا خدمة لأهدافٍ يتوخاها الحلف، ويتطلب تحقيقها كسر شوكة روسيا بإلحاق الهزيمة العسكرية بها!
وسط هذا المناخ اعترف زيلينسكي رئيس أوكرانيا بأن «الهجوم المضاد أبطأ مما هو مطلوب»، لأن دول «الناتو» ترددوا في «منح أوكرانيا مقاتلات (إف –16) ما أضعف إمكانات الجيش، وأثّر على سير الهجوم المعاكس». وحثَّ وزير دفاعه ريزنيكوف دول الأطلسي على اعتبار بلاده «ساحة تدريب للصناعة العسكرية في العالم»، فإن أراد الحلفاء «معرفة ما إذا كانت أسلحتهم تعمل بشكلٍ جيد ومدى فاعليتها، وما إذا كانوا بحاجة إلى تحديثها فلا توجد ساحة اختبار للأسلحة أفضل من أوكرانيا»! بالتأكيد هذا الحديث الخطير الذي يستسهل استباحة أوكرانيا قد يترك تداعيات سلبية، فالأسلحة الروسية والغربية تجري تجربتها بالشعب الأوكراني!
حرب مجنونة كان يمكن تفاديها، وتفادي تقدم السرديات التاريخية على الأخلاق والإنسانية. الناس – الجنود، ممن هم في قلب المحرقة كما بقية المواطنين خارجها، لا يحسب لهم أي حساب، والحرب ستطول لأن أوكرانيا تقول إنها لم تزج بعد قوات الاحتياط في الحرب، وهناك ما يقرب من 9 ألوية متكاملة العدة والتسليح الغربي جرى تدريبها على أيدي خبراء «الناتو». يقابلها استدعاء روسيا لأعداد كبيرة وابتكار في عمليات التمركز والدفاع إلى تطور نوعي في التكامل بين الأسلحة، ولم يؤثر تمرد «فاغنر» على الجبهات المترامية في شرق أوكرانيا وجنوبها، فاستمر الجيش الروسي عند الخطوط الدفاعية التي أقامها لاستنزاف المهاجمين، وفي المحصلة هناك مئات الألوف سقطوا قتلى وجرحى وملايين اللاجئين ودمار مخيف وفوق كل ذلك عمليات تغيير ديموغرافي متواصلة!
مع انعقاد قمة الأطلسي لا شيء يشي بأي تغيير ميداني. كل الهجمات الأوكرانية تتحطم على القشرة الدفاعية، وحقول الألغام تُشتت المهاجمين. وإذا تأكدت البيانات بأن الروس حسموا حرب الدبابات، مع تدمير كل الدبابات الألمانية «ليوبارد 2» الحديثة وأكثر منها دبابات «تشالينجر» البريطانية وأعداد كبيرة من المركبات الأميركية «برادلي»، فذلك سيفضي إلى انهيار أهداف كييف وداعميها، لأن المتبقي من حيث كثافة نار المدفعية والسيطرة على الأجواء ليس في خانة الجيش الأوكراني! والخطير بروز شكوك كبيرة حول إمكانات الأطلسي المضي طويلاً في تسليح لا طائل منه، بينما سيكون متعذراً استقبال المقاتلات الأميركية «إف - 16» في مطارات أوكرانيا، أما مخاطر استخدامها مطارات خارج أوكرانيا، فذلك يدخل العالم في المجهول!
في عواصم أوروبية وفي مراكز الأبحاث ولدى صناع الرأي، هناك أسئلة حقيقية تفرضها تطورات الحرب الروسية على أوكرانيا. منها مثلاً: ماذا لو استمر الهجوم المضاد فترة أطول من دون تحقيق نتائج جدية؟ فهل بوسع أوكرانيا تحمل الاستنزاف المرهق؟ وكيف تنظر الحكومات الأوروبية إلى التحول في مزاج الناخبين وتقدم اليمين المتطرف، إلى التداعيات الناجمة عن وطأة التضخم الكبير وارتفاع الأسعار؟ وماذا لو انتصر بوتين رغم الثمن الباهظ؟