بقلم - حنا صالح
في أجندة المتفائلين أن «أيلول طرفه بالرئاسة مبلول»! ويروجون أن «الخماسية» حسمت ولن يقبل الخارج استمرار المماطلة وسيف العقوبات مسلط على المعرقلين. كما يعولون على الجولة الجديدة للموفد الرئاسي الفرنسي جان أيف لودريان، ويبشر بعضهم أن «دوحة رقم 2» في الأفق مع الحديث عن دور قطري يبدأ من الضاحية الجنوبية ولا ينتهي بطهران والعنوان كسر الانسداد.
وفي الشأن الداخلي فإن دعوة بري، إلى جلسات انتخاب متتالية في سبتمبر (أيلول)، مربوطة مسبقاً بحوار داخلي، حظيت بدعم البطريرك الراعي ما أراح مترددين حيال الحوار وفشل تجاربه وقلقين من أبعاد مرسومة له. لكن يبقى بين الأهم تسريب خبر اللقاء بين قائد الجيش جوزيف عون والنائب محمد رعد رئيس كتلة نواب «حزب الله»، لأنه فتح الباب أمام تكهنات من نوع أن خيارات «الحزب» الرئاسية لا تقتصر على دعم المرشح سليمان فرنجية. حتى إن جريدة «الأخبار» المقربة من «حزب الله» أوردت أن عضو مجلس شورى «الحزب» أي مركز القرار، أبلغ قائد الجيش مبدأ «ربط مستقبل الرئاسة بالحوار اللبناني - اللبناني»!
لنتجاوز الجدل حول ما يروج، من أن مواعيد سبتمبر ستحمل للبنانيين «المنّ والسلوى» الرئاسية، وأن الطريق باتت مفتوحة أمام مرشحٍ ثالث. انطلاقاً من أن معطيات آخر جلسة انتخابية كرّست قدرة «معارضة» نظام المحاصصة على الاستقطاب لفرض إقصاء مرشح «الموالاة»، وأن الفريقين كليهما يمتلكان ورقة التحكم بالنِّصاب فساد التعادل السلبي. وما أوصل الوضع إلى هذا الانسداد، هو أن فريق «حزب الله» المستثمر الأول بالشغور الرئاسي عطل الممارسة الديمقراطية، فأُرغم على الشرب من كأس التعطيل إياها!
حظيت الانتخابات الرئاسية، بعد نهاية ولاية ميشال عون قبل أكثر من 10 أشهر باهتمام كبير. «حزب الله» من موقع الممسك بقرار البلد، حدّد مواصفات رئاسية تلائم متطلباته، وبالمختصر يريد من المقيم في القصر استنساخ العهد العوني في تغطية مشروعه السياسي لاستكمال مشروعه، مطمئناً لقدرته على نسف كلِّ منحى متعارض مع مصالحه! بالمقابل فإن «اهتمام» الآخرين قفز فوق واقع الخلل الوطني بموازين القوى، وذهب بعض «معارضة» النظام السلطوية، ومثلهم حفنة نواب «مستقلين» أو «تغييريين» ممن وصلوا نتيجة التصويت العقابي، إلى استسهال الترويج لإمكانية فرض رئيس بالأغلبية (أي 65 صوتاً)، وبالرغم من أن مرشحيهم، مثل معوض ولاحقاً أزعور، هما من صلب نظام المحاصصة الغنائمي الفاسد المولد للفساد، فقد أسبغوا عليهما ما ليس بمقدورهما من صفات «الاستقلالية» و«الإصلاح» و«السيادية»!
بالعمق، يظهر تجاهل الخلل الوطني المقيم في ميزان القوى عبثية في الحديث عن الإنقاذ، وانعدام المنطق في الترويج لمقولات من بينها أن بيد «معارضة» النظام، فرصة لا تفوت لفرض رئيس يضع البلاد على سكة الخلاص. الأكيد أن انتخاب الرئيس سيفضي إلى انتظامٍ معينٍ في عمل بعض المؤسسات الدستورية، لكن من المستحيل أن تخرج الجمهورية من الفخ الذي دُفعت إليه. فالشغور ليس حالة آنية بل مقيم، لأن رأس السلطة منذ ولادة جمهورية الطائف كان خاضعاً للوجود السوري، وما بعد «انتفاضة الاستقلال» المغدورة بات خاضعاً لمشيئة «حزب الله»! ومعروف أن المؤسسات أُخضعت لتغلغل حزبي طائفي ومذهبي، تزامن مع ما أسفرت عنه الحرب الأهلية من أحجام، ومعها خصوصاً ما أسمي بحربي «التحرير» و«الإلغاء»، فكان تعطيل دور النخب المستقلة المؤهلة وتهجيرها! لكن منذ التحرير عام ألفين، مروراً بـ«انتفاضة الاستقلال» التي غُدرت بـ«الاتفاق الرباعي»، وحتى التسوية المشينة عام 2016، برز تغول دويلة «حزب الله» على الدولة نتيجة مساكنة حكومية وشراكة نيابية بين «معارضة» النظام و«موالاته». وبات المواطن يلمس تواجد الدويلة في كل القرارات، ومرجعيتها في السياسات العامة، فتوفد حكومة تصريف الأعمال وزير خارجيتها إلى نيويورك لعرقلة قرار التمديد لـ«اليونيفيل» لأنه قدم السيادة والمصالح الوطنية اللبنانية على مصالح «حزب الله»...
وقبل ذلك ماثلة في ذاكرة اللبنانيين ملابسات نهاية معركة «فجر الجرود» ضد «داعش»، عندما انصاعت الرئاسة لـ«حزب الله» فحرمت الجيش الانتصار وتقديم قتلة العسكريين إلى المحاكمة، ليعم الذهول أمام مشهد نقل القتلة في باصات مكيفة إلى دير الزور في صفقة خدمت مصالح دمشق وطهران. هذه العبثية والممارسات المعبرة عن انحلال الدولة نجد تتمتها في مخطط تعميم الخلل في عمل السلطات والمؤسسات. أبرزها فوضى مشغولة في القضاء الممنوع من ممارسة دوره وواجبه، سواء لجهة العدالة لبيروت ولضحايا تفجير المرفأ، أو العدالة للبنان الذي أفقر عمداً وللبنانيين الذين نهبهم تحالف مافيوي آثم، فيعطل عمداً وزير المال، ممثل «الثنائي المذهبي»، تشكيلات قضائية جزئية تعيد انتظام عمل هيئة محكمة التمييز، أعلى هيئة قضائية، فيستمر تجميد التحقيق في تفجير المرفأ، كما ملاحقة القضاء لأبرز المرتكبين مثل رياض سلامة.
في ظل هذا الخلل الوطني فإن الرئيس أياً كان، ومن غير الوارد وصول متصادمٍ مع «حزب الله»، لن يبدل شيئاً في المسار العام، ولن تكون الرئاسة بالتالي بداية للحل! كما تظهر التجربة أن تجميع «المعارضات» النيابية غير كافٍ، وعلى العموم ينفرط عقدها إثر كل جلسة، ومثلها محاولات إعادة إنتاج «14 آذار» جديدة، مع ما تحمله من ملامح الانقسام الطائفي الآذاري!
مع انطلاقة ثورة تشرين ظهرت حاجة ماسة إلى أهمية استعادة الدولة المخطوفة، واستعادة الدستور المعلق وإعادة تكوين السلطة... هذه الأهداف الجليلة ممكنة بقدر ما يكون ممكناً استعادة المواطنين دورهم كلاعب سياسي، ورفض الاستسلام لمقولات مهينة من نوع أن «العيب في الشعب»! إن الوقت مؤاتٍ لبدء مسيرة استكمال التحولات في الاجتماع السياسي اللبناني التي عبّرت عنها ثورة تشرين، وبقدر ما تتطور، يكون ممكناً إنهاء الخلل الوطني وإضعاف وتحييد المشاريع السلطوية الفئوية، المرتبطة بالخارج أو الداخلية منها على حدٍّ سواء!