بقلم: حنا صالح
كانت إطلالاتهم باهتة ومربكة الاثنين الماضي في اليوم السادس والعشرين على بدء ثورة الكرامة السلمية... لغوُ وَصَفُّ كلام خالٍ من أي فكرة قادرة على مخاطبة الشارع، إلا خطاب الأمين العام الأشهر، فقد كان البارز فيه ما تقصّد تغييبه؛ قال إنه لن يتحدث عن الحكومة، والذريعة أن هناك مفاوضات جارية بشأنها (...)، وتجاهل العراق بعدما أدت ضغوط قاسم سليماني إلى وضع بلاد الرافدين أمام مفترقٍ خطير، لكن كثراً طرحوا الأسئلة عن أبعاد ما كان قد أعلنه الوزير باسيل في لقاء شمالي في البترون: «التحركات تستهدف المقاومة و(حزب الله). المواجهة ستكون صعبة وطويلة، ولكن سننتصر كما انتصرنا في سوريا»!
ومع سقوط جلسة التشريع بسبب جدول الأعمال الاستفزازي المفجّر للبلد، إنْ بابتداع محكمة خاصة يعينها مجلس النواب، ما يحطم استقلالية القضاء وكل هواجس الثورة بالمحاسبة والمساءلة، وإنْ بقانون عفو يشمل الألوف من تجار المخدرات ومروجيها ومرتكبي جرائم الاتجار بالبشر والفاسدين ممن ارتكبوا جرائم بيئية ونهب المال العام... إلخ، ظهر أن ما انتُزع هو سقوط مدوٍّ لبرلمان أراد الاستثمار ضد الثورة من خلال تشجيع جريمة الإفلات من العقاب، فكان إرجاء الجلسة خطوة جبارة شبيهة بخطوة إسقاط الحكومة، وبمثابة التأكيد على سحب الوكالة الشعبية من برلمانيين انتخبوا وفق قانون طائفي زوّر إرادة اللبنانيين. فبدأ أخطر سيناريو مع الإعلان عن المقابلة المتلفزة، التي تزامنت مع انتهاء الأسبوع الثاني على سقوط حكومة العهد الأولى، وامتناع القصر عن تحديد موعدٍ للاستشارات النيابية الملزمة. باختصار؛ قرروا قلب الصورة بمحاولة إنهاء سلمية الثورة، التي فرضت على جدول الأعمال مطلب حكومة انتقالية مستقلة عن الأحزاب المتسلطة المتهمة بالفساد، وهذا بالضبط ما يفسر تغييب نصر الله المقصود المسألة الداخلية عن خطابه، وتهديد وزير الخارجية الثورة اللاعنفية بـ«السيناريو السوري»! ليتولى ساكن قصر بعبدا الدفة!
كان يوم السابع والعشرين من أيام الثورة يوم الشائعات التي أُريد منها تغطية المنحى - البدعة لتأليف الحكومة قبل الاستشارات والتكليف، فجرى تكبير رفض الحريري التكليف وفق شروط تدفع إلى استنساخ الحكومة التي أسقطها الشارع؛ وإنْ بوجوه وأسماء أقلّ استفزازاً، وراجت شائعات بأن موعد الاستشارات سيعلن خلال 48 ساعة، وأن الرئاسة بعد تردد الحريري تبحث عن تكليف شخصية مقربة منها، ونقل زوار القصر من سفراء غربيين وعرب اطمئنان عون إلى أنه ستكون للبنان حكومة جديدة في القريب العاجل.
كل حريص على البلد وعلى موقع الرئاسة هاله ما سمع، واتهم من دبر اللقاء المتلفز بأنه حاقد ولا أخلاقي، لأن جوهر ما قيل فيه صمُّ آذان عن مطالبات اللبنانيين، والتأكيد أن الرئاسة تعيش في عالم يعود لزمن ما قبل الثورة. ببساطة طالب عون المواطنين بالعودة إلى منازلهم، فذُهل المحاور المحسوب عليه وسأل: دون أن تقدموا لهم أي شيء؟ فتتالت المواقف كالقول: «إذا الشعب ما بيوثق فيي؛ أنا كمان ما بوثق فيه»... إلى إلصاق تهمة الانهيار الاقتصادي بالناس الذين امتهنت كراماتهم: «الحراك إذا كفى هيك البلد بدو يموت، عطلتوا الوطن وعطلتوا الشغل، ارجعوا لأعمالكم»!! ومع المحاولات المتكررة من المحاورين للحصول على وعد بموعد بدء الاستشارات النيابية، جاء الرد الصاعق: «إذا تم التكليف تخرج من يدنا»... أي إن هناك من يدفع لطي دستور البلد ويؤكد ألا أولوية إلا الوهم بتجديد التسوية التي خرَّبت لبنان، وأن رهاناتهم الحقيقية تنحصر في مسعى تأبيد المحاصصة الطائفية، خصوصاً مع إعلان رئيس الجمهورية أنه لا؛ لن نعيد الحكومة نفسها.
لم ينفع الفاصل والاستراحة وجهد خارق من صحافيين اختيرا بعناية لإجراء المقابلة... تبدى أن اللقاء كان مسجلاً، فذهب إلى اتهام الثائرين بأنهم خنجر على الوطن، وهم الحالمون بعودة دولة القانون، ودولة العدالة التي يحميها قضاء مستقل يوحي بالثقة والقدرة على المحاسبة بكل شفافية، أصيب الناس بالذهول عندما قيل: «إذا ما عاجبهم... يروحوا يهاجروا»، فانفجر الغضب ونزل الناس إلى الطرقات في كل لبنان... وسرعان ما تبلورت أكثر الصورة.
بالتزامن؛ ألقيت بضع قنابل في محيط مخيم عين الحلوة ومثلها في طرابلس، وجرت محاولة دهس متظاهر في برجا، وأُفشلت محاولة خطف متظاهر في وسط بيروت، وتوِّجت هذه الأعمال المدبرة باغتيال الناشط علاء أبو فخر على مثلث خلدة وهو بين زوجته وطفليه. ومثلث خلدة أكثر مناطق لبنان حساسية حيث التماس الدرزي - الدرزي، والدرزي - الشيعي، وكل ذلك أريد منه وضع الثورة في مواجهة مع المؤسسة العسكرية، بإحراج القيادة التي سعت طيلة المرحلة السابقة لاستيعاب الوضع وتوفير الحماية لكل المواطنين وتأمين سلامة التظاهر والمتظاهرين. هذا المنحى أزعج كثراً في موقع القرار السياسي، كما أن هذه الأدوار التي لعبها الجيش منذ حادثة قبر شمون قبل أشهر، أزعجت بالتأكيد «حزب الله»، الذي اضطر إلى أن يأخذ بصدره مهمة إفشال التحرك، فهدد وخوّن وأغار على المعتصمين السلميين وفشل... لكنه لم يغير من جوهر الاستراتيجية الملتصقة بحسابات طهران، التي وجّهت إلى مزيد من القمع في العراق، والمخطط معروف؛ وهو الإمساك بلبنان كما العراق حتى خريف عام 2020 أي ما بعد الانتخابات الأميركية! وهذا يفسر تكتيك خطاب نصر الله وفضح ما يدبر على لسان باسيل.
الوضع دقيق وخطير، وثورة الكرامة أمام تحدي إفشال «السيناريو السوري» عبر الذهاب في المواجهة السلمية حتى العصيان المدني كما يناقش ويروج، للعبور بلبنان من أخطر مفصل تاريخي بعدما انكسرت الحواجز وانتزعت النساء دورهن في قيادة التغيير، وتألق جيل من الشباب الواعد، يشكلون معاً وقود الثورة ووعيها المتقد. والطروحات تعلن أنه لم يعد من بديل عن المضي قدماً من أجل إعادة تكوين السلطة التي تمر بقيام حكومة انتقالية من مستقلين، والذهاب إلى انتخابات نيابية مبكرة وتقصير الولاية بعدما كشفت المقابلة الحقيقة. الثورة السلمية هي الآن أمام مهام الدفاع عن نفسها وعن أحلام اللبنانيين التي أزهرت مبشرة بلبنان آخر حقيقي مدهش يتبلور يوماً بعد يوم، الممر الإجباري إليه طي صفحة الدولة - المزرعة، وطي صفحة رموز الحرب الذين ينتمون إلى عصر التعود على فكرة الدولة - الغنيمة، حيث يعدّ التحالف السلطوي كل مطالبة بحقوق الناس تجرؤاً على «ملكية خاصة» تكرست بقوة منذ «اتفاق الدوحة» المُذل (2008)، وأُعيد تأكيدها في «تسوية عام 2016»، فبات نظام المحاصصة تحت حماية الدويلة والأجندة الإيرانية في المنطقة.
وقد يهمك أيضًا:
«جمّال ترست بنك»... منحى قد يجر للهاوية
... وإلاّ فَعَلَى الدولة اللبنانية و«الحكم القوي» السلام!