بقلم - حنا صالح
طيلة أسابيع لم يصدق بسام الشيخ حسين أن مدخراته في المصرف اختفت وجني عمره تبخر. وثق بالسلطة وحملة الترويج الطويلة: «الليرة بخير»، وأودع تعبه لأكثر من 20 سنة في المصرف الذي كان يستقبله بالترحاب! لكن بعد انفجار الأزمة أقفلت الأبواب بوجهه، ومعارفه في المصرف لم يعودوا يتعرفون عليه!
عادة تتعرض المصارف للسطو من عصابات محترفة، لكن في الحالة اللبنانية فإن صاحب الوديعة بسام الشيخ حسين، اقتحم المصرف واحتجز موظفين، لاسترداد بعض من ماله الذي «سطا» عليه المصرف (!) مثله مثل مليون ونصف المليون لبناني صودرت ودائعهم التي تتجاوز المائة مليار دولار! ومئات ألوف الأسر انتقلت «ما بين طرفة عين وانتباهتها» من اليسر إلى العسر ومن البحبوحة إلى تسول رغيف الخبز.
حشْد المواطنين، الذي حاصر القوى الأمنية التي حاصرت المصرف، طالب بتسليم بسام كامل وديعته. وطرح الحشد السؤال المقلق للمتسلطين على اللبنانيين: لماذا تأخر هذا الاقتحام؟ فالعملية الأولى قام بها عبد الله الساعي في يناير (كانون الثاني) وخرج بوديعته، ولماذا لم تحدث عمليات مماثلة على نطاقٍ أوسع؟ وهذا الأمر الآتي إلى أين سيؤدي، في بلد أدارت «النخبة» ظهرها لوجع الناس مطمئنة لحماية بندقية الدويلة!
كان اهتمام اللبنانيين منصبّاً على المواطن، الذي اقتحم المصرف لـ«يسرق» المتيسر من وديعته، ومنفذاً عدالته الخاصة بعد السقوط القانوني والأخلاقي والسياسي، لمن سماهم البنك الدولي «النخبة» المتحكمة... حتى طغى نبأ الإعلان عن قرارٍ قضائي بـ«إلقاء الحجز الاحتياطي على أملاكٍ عينية بقيمة 100 مليار ليرة لبنانية تخص النائب علي حسن خليل»! تمّ الحجز نتيجة ادعاء نقابة المحامين وكالة عن أهالي ضحايا تفجير المرفأ، وهدف إلى حفظ حقِّ هذه الجهة، في حال صدر حكم نهائي لمصلحتها، وذلك على خلفية إقدام النائب الخليل على التعسف في استخدام حق الدفاع، وعرقلة التحقيق العدلي، بهدف كف يد القاضي طارق البيطار، الذي كان قد ادعى على الخليل وآخرين بجناية «القصد الاحتمالي» بالقتل في جريمة تفجير المرفأ!
لفتت الانتباه القيمة المالية الكبيرة للعقارات المملوكة من النائب الخليل، ومن ثم طُرح السؤال «من أين له هذا؟» وذلك عندما أظهرت إفادات نفي الملكية أن تاريخ شراء العقارات، إلا واحداً، يعود إلى ما بعد دخوله إلى مجلس النواب وتسلمه حقائب وزارية! والأكيد أن النائب خليل، المعاقب من الخزانة الأميركية وفق «قانون ماغنيتسكي» بتهمة تمكين مؤسسات واجهات لـ«حزب الله» من الاستحواذ بالتراضي على مشاريع مالية كبيرة (...)، لا يمكن له أن يدعي أن «عصاميته» أمّنت له هذه الثروة الطائلة!
حادثة بسام الشيخ حسين وانكشاف جانب من ثروة النائب الخليل، تزامنا مع التقرير الخطير الذي أصدره البنك الدولي عن الانهيار الدراماتيكي وحمل عنوان «لبنان: مخطط تمويل بونزي؟» ورد فيه أن المالية العامة في فترة ما بعد الحرب الأهلية، «استُخدمت كأداة للسيطرة على موارد البلاد»؛ ما أتاح لـ«النخبة» الاستيلاء على موارد الدولة لتحقيق مكاسب شخصية! ولئن تسبب الخروج الممنهج عن السياسة المالية المنضبطة إلى التصرف في الودائع بالدولار، فإن «إضعاف تقديم الخدمات العامة»، جاء في سياق «جهد متعمد لإفادة فئة محدودة على حساب اللبنانيين»، وخلص إلى التنبيه إلى أن «العقد الاجتماعي في دائرة الخطر»!
للمنهبة غير المسبوقة أم وأب، أطلقت عليهما «ثورة تشرين» تسمية «كلن يعني كلن»، وراء الجرائم المالية التي أفقرت اللبنانيين وحوّلتهم إلى شعب متسول بعد الاستئثار بمقدرات الدولة وتحاصص وارداتها بين «الاقتصاد الموازي» لدويلة «حزب الله» وأطراف نظام المحاصصة الغنائمي، وتبديد جزء من الودائع على تمويل التهريب الذي زاد من أرباح الكارتيلات وموّل ميليشيا «حزب الله»، وميليشيات النظام السوري!
بدأ النهب منذ أكثر من 30 سنة مع سياسة تثبيت سعر الصرف، وتفاقم مع العجز في ميزان المدفوعات بعد العام 2011، فراحوا يمولونه من أموال المودعين. ولئن كشف رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة عن أن المصارف أفلست منذ العام 2015، فإن تعميماً أصدره رياض سلامة حاكم المصرف المركزي دعا فيه أصحاب المصارف إلى زيادة رأسمالها من الأموال التي نقلوها إلى الخارج بدءاً من العام 2017، فإن نادي قضاة لبنان رفع الصوت فاضحاً هذه «الغرغرينا» منذ اليوم الثالث لبدء ثورة «17 تشرين» 2019.
استناداً إلى المرسوم 144 للعام 2015 المنسجم مع قرار الأمم المتحدة لمكافحة تبييض الأموال والتهريب، طلب نادي القضاة، «منع المسؤولين من مغادرة لبنان وإزالة درعي الحصانة الوظيفية والسرية المصرفية ونشر حسابات كلِّ من تولى الشأن العام علناً»؛ تمهيداً لتحقيق شفاف و«محاكمة عادلة لاسترداد المنهوب من أموال الناس»... وداعياً إلى «منع تحويل أموال المسؤولين ومتعهديهم المعروفين إلى الخارج وحجزها». وبالاسم طالب بكشف حسابات الرؤساء والوزراء والنواب وموظفي الفئة الأولى والقضاة والضباط.. لكنهم ضربوا بالطلب عرض الحائط، وتشدقوا بمعسول الكلام عن قدسية الودائع، في حين امتنعوا حتى تاريخه من إقرار قانون «كابيتال كونترول»، وأقفلوا المصارف كي يتاح لهم نقل الأموال إلى الخارج!
ووفق ما نشره موقع اتخذ تسمية «ويكيليكس لبنان»، فإن 13 شخصية سياسية ومصرفية فقط، نقلوا مليارين و400 مليون دولار، لم يكن من بينهم رياض سلامة الملاحق أمام القضاء الأوروبي بتهم تبييض الأموال والإثراء غير المشروع، وتم حجز 300 مليون دولار تعود إليه وعقارات عديدة في فرنسا وألمانيا وسويسرا تقدر أيضاً بمئات الملايين.
الأموال المنهوبة كما الودائع موجودة لدى التحالف المافياوي الناهب، ولدى الكارتل المصرفي الذي حوّل عشرات المليارات إلى «الجزر الآمنة»، وموجودة في الثروة العقارية الهائلة التي تعود للسياسيين والمصارف. ولكن شيئاً منها لن يُستعاد من دون بلورة ميزان قوى يفرز بديلاً سياسياً عن «منظومة النترات» المتسلطة. المهمة شاقة وصعبة، لكنها الممر الإجباري لقيام سلطة مستقلة موثوقة تستعيد القرار المخطوف، وتضمن استقلالية القضاء وتفتح الطريق لمحاسبة ومساءلة عادلة وشفافة.
إن الجهات التي عطلت التحقيق العدلي في جريمة المرفأ، لإدراكها أن كشف الحقيقة وبلوغ العدالة يطوي زمن «الإفلات من العقاب» ويرسل المدانين إلى خلف القضبان! تعرف أن انتزاع أي تنازل، سيفتح الطريق لبلورة قيام «الكتلة التاريخية»، الطريق الوحيدة للعودة للدستور فينتقل لبنان إلى مدار التغيير، وعندها سلاسل الحلقات المترابطة الآن بين الداخل والخارج، لن تقوى على اللبنانيين القادرين على ابتداع النصر.