بقلم :حنا صالح
دخل السودان فور التوقيع بالأحرف الأولى على وثيقة الإعلان الدستوري في الرابع من أغسطس (آب)، الحقبة الأهم في تاريخه السياسي. حقبة التحول إلى حكم مدني، إلى وعدٍ بقيام دولة مدنية تعددية لا مركزية، هي الغاية التي خرج من أجلها الملايين إلى الشوارع، وقُدمت في سبيلها التضحيات الكبيرة، تقوم فيها الحقوق والواجبات على أساس المواطنة، وترتكز مؤسسات الحكم فيها على سيادة حكم القانون والفصل بين السلطات والشفافية.
إنها حقبة تاريخية لأنها تطوي 30 سنة من حكم شمولي متسلط لجماعة «الإسلام السياسي» المتحالفة مع طغمة عسكرية بزعامة الرئيس المخلوع عمر البشير. وهي حقبة الانتقال إلى نظام برلماني ديمقراطي، لأول مرة منذ استقلال البلد الذي عاش تحت الحكم العسكري للجنرالات عبود والنميري والبشير، 52 سنة من أصل 63 سنة هي كل عمر الاستقلال السوداني!
في السودان ينظرون لحدث الرابع من أغسطس 2019 التاريخي، بوصفه محطة تعادل محطة الاستقلال السياسي للبلاد يوم 1 يناير (كانون الثاني) 1956. حدث حققته ثورة شبابية نسائية شعبية، كسرت في سلميتها العنف الدموي يوم الثالث من يونيو (حزيران) وعزلت دعاته، والأهم أنها أحبطت حلماً راود بعضهم باستنساخ نسخة جديدة من الحكم العسكري والتسلط.
قاد هذه الثورة تحالف «قوى إعلان الحرية والتغيير»، الذي صاغ رؤية سياسية لمستقبل السودان، وبرنامجاً للهياكل الدستورية ومستويات الحكم والأولويات، توافقت عليهما قوى المعارضة التي قاومت الديكتاتورية، ولم تكن في أي مرحلة جزءاً من الحكم البائد. ضم هذا التحالف أكثر من 80 منظمة، بين أحزاب سياسية وجبهات ثورية وقوى مهنية ومدنية، أبرزها «تجمع المهنيين» الذي يمثل القوى الحية في المجتمع، ظاهرت هذه الثورة. وقد حاز هذا التحالف احتضاناً شعبياً وثقة، شملت كل جهات السودان وأعراقه، عبّرت عنها المليونيات والاعتصام الشعبي أمام مقر القوات المسلحة.
الرابع من أغسطس الذي يعدُّ أبرز الأيام السودانية، يكتمل بأيام تاريخية حتى الأول من سبتمبر (أيلول)، ففي 17 أغسطس يتم التوقيع النهائي على الوثيقة الدستورية بحضور أصدقاء السودان، يليه في 18 منه إعلان مجلس السيادة بوصفه رأس الدولة، وفي الوقت نفسه يُحلُّ المجلس العسكري، وفي 20 أغسطس يُسمى رئيس السلطة التنفيذية، الذي يتسلم من «قوى إعلان الحرية والتغيير» قائمة من 60 اسماً، من أصحاب الكفاءات، ليختار من بينهم 20 وزيراً لحكومته، التي ينبغي أن تُعلن في 28 منه، على أن يعقد الاجتماع الأول مع مجلس السيادة في الأول من سبتمبر.
المرحلة حاسمة، وربما هي الأصعب في مسيرة السودان الثورية، تحمل تحديات متعاقبة، وأملاً بعدالة آتية، هي وحدها الممر الإلزامي لرد الظلم ومكافحة الفقر والتمييز العرقي والديني. مسيرة مطالبة بتأكيد أولوية المصالحة والسلام والإصلاح، وترسل المؤشرات الجدية على إنهاء نهج الإقصاء، لتحقق المرجو منها على طريق معالجة الاختناق الاقتصادي. مثل هذه المسيرة تتطلب عملاً شاقاً، عبّرت عنه مواقف قادة قوى «إعلان الحرية والتغيير» التي أولت أهمية مطلقة لاستمرار رسوخ وحدة القوى التي صنعت الثورة، كي يتكرس الوعي الذي ميّز الشارع السوداني طيلة الأشهر الماضية، فتبقى «عيون الثوار مفتوحة لمراقبة مدى تحقيق أهداف الثورة»، على ما أكده عمر الدقير أحد قادة التحالف، وتستمر الجذوة مشتعلة حتى يتم إنجاز الانتقال السياسي بسلاسة، للتأسيس الجدي للحكم الديمقراطي للسودان الجديد.
إعلان حكومة الثورة مسألة لا تقبل التأخير، لتحضير البلد لمواجهة قوى النظام القديم، أو الدولة العميقة التي قامت على ميليشيات «الحركة الإسلامية»، التي تتشكل من أعداد ذات ولاء أعمى للحكم الشمولي. وهذه الأعداد المنضوية في «قوات الدفاع الشعبي» و«المجاهدين» تتبع مباشرة قيادة حزب «المؤتمر الشعبي» (كان يتزعمه حسن الترابي حتى وفاته)، وهي ميليشيات مدربة عسكرياً ومسلحة حتى الأسنان، ولها تاريخ في انتهاك حقوق الإنسان. أُنشئت هذه الميليشيات لتمكين «دولة الإنقاذ»، ومن البداية أُريد لها أن تكون موازية للقوى النظامية، على الطريقة نفسها لوجود «حزب الله» في لبنان، و«الحشد الشعبي» في العراق، وهي تتحكم في كل مفاصل اقتصاد البلد ووضعه المالي، إلى تحكمها المطلق في كل أجهزة الدولة.
وحدها حكومة الثورة المؤيدة من الشارع، وتحوز دعم القوات المسلحة، قادرة على تنقية أجهزة الأمن، وتفكيك «دولة الظل» وتصفيتها. وأي تأخير سيضع السودان أمام احتمال أحداث عنف وتخريب، بوهم قدرة هذه الميليشيات على إعادة «الحركة الإسلامية» إلى واجهة السلطة من جديد!
والخطر أكثر من حقيقي، بعد إعلان «تنسيقية القوى الوطنية» التي تضم القوى التي تعاونت مع نظام البشير، ومنها ائتلاف «نصرة الشريعة ودولة القانون»، رفضها الاتفاق بين المجلس العسكري وقوى «إعلان الحرية والتغيير»، كما تحفظت مسبقاً على الدستور الجديد الذي سوف يصوغه المجلس التشريعي المزمع تشكيله.
قبل 17 يوليو (تموز) يوم توقيع الإعلان السياسي، تأكد بالملموس عدم قدرة العسكريين على الانفراد بالحكم، وعدم قدرة المدنيين على فرض رؤيتهم كاملة؛ لكن الشارع الذي التف حول عنوان التغيير الجدي، وأظهر قدرة غير مسبوقة على استنباط أشكال مختلفة من النضال السلمي، فرض الذهاب إلى حل تشاركي، رسمت حدوده يوم الرابع من أغسطس وثيقة الإعلان الدستوري.
الصعوبات ما زالت كامنة؛ لكن القيادة التي تجاوزت الفخاخ وحصّنت السلمية، أعرف بما يواجه السودان، فشكل قرار الإبقاء على التعبئة الجماهيرية سلاحها السري لاستكمال المسيرة.