بقلم: حنا صالح
قدمت الحرب العبثية في لبنان، والحروب «الأهلية» المتناسلة في المنطقة، نماذج مرعبة من الإجرام والقتل بدم بارد، كلها التقت على قيام جهات حكومية رسمية ببناء تشكيلات إرهابية، ورعايتها، والاستثمار فيها، لتوجيه رسائل بالدم إلى الجهات المناوئة، أو توسل هذه التشكيلات لفرض الهيمنة والتوسع. اختبر النظام السوري هذه الأشكال الإجرامية في لبنان، وتوسل عمليات الخطف المدبرة التي طالت مروحة من الناس، بينهم الكثير من الدبلوماسيين الغربيين، لتحقيق أهداف محددة تبدأ بالخوة والتمويل والصفقات، وتصل إلى محاولة كسر مقاطعة أو فتح باب تفاوض، ولطالما تكررت «النجاحات» في تسليم المخطوفين، وإبقاء الخاطفين مجهولين، وتوجيه الشكر إلى الجهة الراعية للخاطفين!
أما نظام الملالي فقد بزّ النظام السوري في محاولاته بناء بيئة حاضنة لمشروعه التوسعي، فإلى أساليب النظام السوري التي خدمت مخططه البعيد المدى بفرض تغيير ثقافي كمقدمة لإدخال تغييرات ديموغرافية لتعزيز وجود مذهبي، استثمر «الحرس الثوري» في إقامة التنظيمات الطائفية المتطرفة الرديفة للأجهزة الأمنية، فتمت مصادرة دور الجيوش ووظائف الدولة، وجرى تقويض العدالة، وفرض شريعة القوة على الناس، فكانت الغيتوات واستنساخ ممارسات «الباسيج» الترهيبية، ليشكل ذلك جسر هيمنة النظام الإيراني، الذي أقام هلالاً شيعياً يمتدُّ من طهران إلى المتوسط وباب المندب!
هذه الاستعادة فرضها إعلان البيت الأبيض أن «تركيا ستكون الآن مسؤولة عن كل مقاتلي تنظيم (داعش) في المنطقة، الذين اعتقلوا على مدى العامين الماضيين»، أي أن البيت الأبيض الذي افترض أن «قسد» ستتلقى سريعاً ضربة قاصمة، ارتأى تسليم الدولة المتهمة بدعم هذا التنظيم الإرهابي «دواعشها» المعتقلين؟ والسؤال كيف يمكن لجهة استقبلت الإرهابيين، ووفرت لهم ملاذات آمنة والتدريب والتسليح والانتقال إلى سوريا والعراق، أن تقوم بدور السجان بانتظار المحاكمات التي وحدها تقرر مصير هذه المجموعات؟ هنا نفتح مزدوجين إلى الإشارة أن للرئاسة التركية استثمارات تجاوزت «داعش»، إلى كل المجموعات الإرهابية التي خرجت من عباءة جماعة «الإخوان المسلمين»، والمنتشرة في الشمال السوري، وصولاً إلى طرابلس الغرب... وقد راهنت أنقرة على الدور الإرهابي لهذه القوى من أجل توسيع سيطرتها وتحقيق أهدافها الإقليمية على طريق تجسيد الحلم بـ«عثمانية جديدة» هي أولوية الزعامة التركية.
«المآثر» الإردوغانية لا تعد ولا تحصى، وأفضل من ساهم في فضحها كان أحمد داود أوغلو الرفيق السابق للرئيس إردوغان، الذي أورد في سياق الصراع السياسي التركي على خلفية الانتخابات البلدية، أنه لو كشف تفاصيل ملف التفجيرات الإرهابية التي نفذها «داعش» في تركيا عام 2015، لما كان الكثير من المسؤولين قادرين على الخروج إلى الشارع. يومها اتُهمت الرئاسة بتدبير تلك العمليات التي قتلت وجرحت المئات، ليحصد بعدها إردوغان المزيد من الأصوات، بوهم أنه الجهة القادرة على حماية حياة المواطنين الأتراك! وغداة بيان البيت الأبيض، حذّر بريت ماكغورك، المبعوث الأميركي السابق للتحالف الدولي، من خطر تسليم تركيا سجون «الدواعش» و«معسكر الهول»، لأن «الـ60 ألف محتجز هناك سيتحولون نواة تنظيم (داعش) الجديد»، ونبه الإدارة الأميركية من أن «الاعتقاد بخلاف ذلك مقامرة متهورة مع أمننا القومي».
ولأن الذاكرة طرية، فإنه مع انفجار سيطرة تنظيم «داعش» في عام 2014، انعقد مؤتمر جدة لبحث مواجهة هذا الخطر الداهم، وقد أجمع المشاركون على تشكيل التحالف الدولي لمحاربة «داعش»، وكانت تركيا الدولة الوحيدة المشاركة التي رفضت التوقيع على ذلك البيان. تزامن ذلك مع ما كشفته جريدة «حرييت» التركية عن شحنات من الأسلحة كانت تنقل بإشراف المخابرات التركية إلى «داعش» في سوريا، فجرى على الفور مصادرة الصحيفة، ورمي كتّابها في غياهب السجون!
لكن الفضيحة الأكبر لأنقرة، جاءت من موسكو، عندما عرض الرئيس الروسي في عام 2015 صوراً من الأقمار الصناعية، لقوافل تضم مئات الصهاريج، تنقل النفط المنهوب إلى تركيا، ويكشف الجنرال الروسي أناتولي أنتونوف، نائب وزير الدفاع، تفاصيل التجارة المربحة لبعض أفراد عائلة الرئيس التركي، فيعلن أن قوافل الصهاريج كانت تدخل عبر عدة معابر، وتُسلم «داعش» النفط لشركات نجل الرئيس بلال وصهره بيرات بـ50 في المائة من سعره، فتتضخم جيوب أسرة إردوغان، وتغنم «داعش» مئات ملايين الدولارات! وعلى مشهد من العالم، عرضت موسكو مشاهد قصف جوي دمّر نحو ألف صهريج ما عجّل بانتقال إردوغان إلى سان بطرسبورغ لتقديم أوراق اعتماده للرئيس الروسي الذي بدا أنه يعرف الكثير!
بعد سقوط الباغوز، عرضت «قوات سوريا الديمقراطية» ألوف وثائق السفر الممهورة بأختام تركية، وكشفت جهات وثّقت اعترافات أسرى من «داعش» كيف كان ينظم في تركيا استقبال المجندين من كل أصقاع العالم، وكيف تولت المخابرات التركية عمليات التدريب، وكيف كانت المشافي التركية تستقبل جرحى «داعش»، والآن هناك عشرات الدعاوى أمام القضاء التركي الذي بإيعاز سياسي كان يتغاضى عن عناصر «داعش» ويفرج عنهم!
من البداية، أولى التحالف الدولي الأولوية لقتال «داعش»، وما من جهة أولت أهمية للناس أبناء المنطقة، وهم أول الضحايا، واليوم مع الغزو التركي انفجر القلق من عودة «داعش» التي تبدو حتمية، والكل تذكر الجرائم ضد الإنسانية التي نفذها هذا التنظيم الإرهابي، وكانت أساساً جرائم مدروسة ضد البيئة السنية لتسهيل استتباعها، وهي على الأغلب نتيجة جهد منظم للمخابرات التركية، حوّلت «داعش» والجماعات الإجرامية الأخرى، إلى أدوات في مشروع إردوغان للسيطرة والتوسع؛ هلال تركي بالتوازي مع الهلال الإيراني!! اليوم هناك مسؤولية دولية لوقف الغزو الذي يهدد بكارثة نزوح ويؤسس لبدء مجازر عربية - كردية، فإلى متى يستمر تجاهل دور الدولة التركية راعيةً للإرهاب!