بقلم - نشوى الحوفى
تظل تهمة غياب الديمقراطية أحد أهم الانتقادات الموجهة لفترة حكم الرئيس جمال عبدالناصر ولثورة 23 يوليو، ولكن القارئ فى تاريخ تلك المرحلة يدرك لأكثر من سبب أن غياب الديمقراطية بالمعنى المتعارف عليه -من تعددية حزبية وحرية تعبير وتداول سلطة- لم يكن شيئاً مستبعداً على الحكم فى مصر فى تلك المرحلة. لذا فاتهام الرئيس عبدالناصر بتغييب الديمقراطية من دون قراءة لمشهد عاش فيه قبل ثورة يوليو 1952 ومشهد عاش فيه بعد الثورة وخلفية عسكرية شب عليها وانطبع بسماتها، ليس بالعادل.
القارئ فى المشهد المصرى قبل يوليو 1952 يدرك أن تعددية الأحزاب لم تكن صورة للديمقراطية بقدر ما كانت صورة لمواءمات المشهد السياسى الذى فرضته ظروف الاحتلال البريطانى لمصر منذ 1882، وما تلاه من محاولات لاستقلال مصر على يد مصطفى كامل ومحمد فريد وسعد زغلول. فعلى الرغم من نجاح ثورة 1919 فى انتزاع حقوق للمصريين بوضع دستور 1923 وانتخاب مجلس للأمة، إلا أنها لم تمنح مصر استقلالها لتستمر حركة الشعب المطالبة بالاستقلال. ثم إن منح دستور 1923 الملك صلاحيات حل مجلس النواب وتعيين الوزراء وعزلهم والتصديق على القوانين وإعلان حالة الحرب وعقد المعاهدات وعزل وتولية الضباط دونما الحاجة لمجلس النواب لم يمنح المصريين استقرار حكومات. فقد جاءت غالبية الانتخابات بحزب الوفد الذى تربطه بالملك حالة من العداء الموروث، ولذا كان استمرار الوزارات لمدة طويلة ضرباً من الخيال، ما أورث المصريين الكفر بالديمقراطية لتتصاعد حدة أمنية حضور الديكتاتور العادل القادر على منحهم الاستقرار والاستقلال اللذين فشل الجميع فى تحقيقهما.
أضف لهذا التغيرات السياسية المفروضة على العالم بعد الحرب العالمية الثانية من استقطاب بين الفكر الرأسمالى الغربى بقيادة أمريكا، والفكر الشيوعى الاشتراكى بقيادة الاتحاد السوفيتى، يزيد عليه فى مصر والمنطقة، وبخاصة بعد حرب 1948، البعد الإسلامى الذى أيقظت ملامحه فى السياسة حرب فلسطين وإعلان الدولة الصهيونية واستغلال الإخوان المسلمين لهذا المشهد لمزيد من الانتشار بين الناس.
ونأتى للرئيس جمال عبدالناصر ابن الطبقة الكادحة من المصريين المدرك لما سبق من تفاصيل فى المشهد السياسى، الواعى لحجم الخلاف -دونما نتيجة- بين القوى السياسية فى مصر. «عبدالناصر» بخلفيته العسكرية التى ترسخ منذ أول دقيقة فيها لمبدأ أن طرح الرؤى والبدائل القائم على المعلومة حق، بينما يبقى اتخاذ القرار فى يد القائد المتحمل لمسئوليته أولاً وأخيراً. والواقع يقول إن «عبدالناصر» كان حاسماً دون النظر لمواءمات تفرضها السياسة فى بعض الأحيان. كان الرجل واضحاً منذ بدايته وحتى نهاية عمره، وهو ما يتضح من خطبه وآرائه. فقد آمن بالديمقراطية القائمة على إزالة الفوارق بين الطبقات وتحقيق العدالة الاجتماعية للشعب دونما تمييز. كانت كلماته فى بورسعيد يوم 22 ديسمبر 1961 محددة لرؤيته للديمقراطية القائمة على تحقيق الرفاهية لكل المجتمع بلا فوارق طبقية، وتحرير المصريين من استغلال الرأسمالية والإقطاع. مؤكداً أنه يسعى لتحقيق الديمقراطية السياسية والاجتماعية ولكن ليس بتعددية الأحزاب أو إطلاق حرية التعبير ولكن بالقضاء على استغلال العامل والفلاح.
هكذا كان الحال فى ظل تصاعد الرفض لما صارت عليه مصر من قوة وتأثير بعد أن كانت مجرد دولة محتلة من بريطانيا. نعم أخطأ، بحكم زماننا، بانفراده بالرأى ولكن مَن منا لم يكن ليفعل فى مثل تلك الصورة؟
نقلا عن الوطن
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع