بقلم: نشوى الحوفى
من الخطأ التسرع فى الحكم على ما تشهده أمريكا من مظاهرات ووصفها بثورة على ترامب أو ثورة على عنصرية كامنة تحت الرماد لم يُنهها تصدُّر السود للمشهد الأمريكى جنباً إلى جنب مع البيض، فما يحدث ليس إلا إثبات حضور لليمين المتطرف من جانب، وإعداد المسرح الأمريكى لعهد جديد فى ظل ما يحدث لإعداد المسرح العالمى بعد كورونا من جانب آخر.
دعونا نناقش بعض المعطيات بالمنطق للإجابة على تساؤلات تسعى لتفسير المشهد. البداية فى حادثة الشاب الأمريكى ذى الأصول الأفريقية جورج فلويد الذى توفى نتيجة الاختناق بعد إلقاء شرطى أمريكى أبيض القبض عليه الأسبوع الماضى، ليكون السؤال: هل تلك الحادثة هى الأولى فى أمريكا وولاياتها المتحدة؟ لا ليست الأولى ولن تكون، فالعنصرية التى سادت أمريكا ضد السود حتى بداية سبعينات القرن الماضى لم تنتهِ، وإن بدا لك عكس ذلك، بوصول أوباما للحكم، أو تصدُّر أوبرا وينفرى لمشهد الإعلام. قال السيناتور تيد كينيدى إن بيل كلينتون كان متحيزاً ضد أوباما وأصوله الأفريقية، وقال له بعد خسارة زوجته هيلارى الانتخابات الأولى للحزب الديمقراطى أمام أوباما: «منذ أعوام كان هذا الرجل ليحمل لنا الحقائب»! وكان يعنى به أوباما. كذلك فإن البحث فى أرشيف الحوادث الأمريكية ضد السود يقودك للعديد من الحوادث، أبرزها حادثة مقتل «رودنى كينج» فى العام 1992 على يد 4 ضباط شرطة بيض أمام الكاميرات وتبرئتهم رغم الأدلة! ومقتل «مارتن ترايفول» عام 2012 على يد أحد الحراس دون مساءلة.
ليس هذا فحسب، فالأمر لا يقتصر على الحوادث التى تنتهى بالموت كما فى حالة فلويد، ولكنه يمتد إلى إحصائيات المجتمع الأمريكى ذاته، حيث عرض تقرير لقناة دويتش فيلة الألمانية منذ سنوات لظاهرة جامعة «هيوارد» الأمريكية التى تصنَّف كجامعة للسود، حيث لا تتجاوز نسبة البيض فيها 1%! ويمتد التصنيف العنصرى إلى حد ذكر الأرقام أن نسبة البطالة بين السود ضعف نسبتها بين البيض الأمريكيين، كما أن السود يكسبون نحو ثلث ما يكسبه البيض! ولذا فحادثة فلويد ليست الأولى ولن تكون الأخيرة فى مجتمع يُخفى أكثر مما يُظهر رغم ما يروّجه عن ذاته وقيمه وعدالته.
إذاً لماذا تصاعدت نتائج حادثة فلويد ومنحتنا مشهد ما سموه ربيعاً عربياً فى بلادنا منذ نهاية العام 2010؟ يمكن القول إن تلك المظاهرات التى هددت صورة أمريكا القوية المستقرة وشهدنا فيها استدعاء الجيش واعتقال ما يزيد على 4000 متظاهر لا تعبّر عن كتلة واحدة تنادى بنفس الأهداف، فمنهم من يمثل الغضب الشعبى العام على فكر إدارة ترامب اليمينى الذى دعم اليمين والتطرف منذ تقلده سلطة بلادهم فى العام 2016 لتعلو نبرة التطرف ورفض الآخر، ومنها إقامة سور على حدود الولايات المتحدة والمكسيك. ومنهم من ينتمى لهذا اليمين المتطرف الداعم للفوضى، وفى مقدمتهم جماعة أنتيفا التى اتهمها ترامب بتدبير تلك المظاهرات، ويأتى فى مقدمة مموليها جورج سورس، الملياردير الذى قيل إنه وراء الفوضى فى ثورات العالم العربى، أما الفريق الثالث فى المتظاهرين فهم فقراء أمريكا المخفيون عن عيون الكاميرات ورعاعها المنتظرون لساعات الانفلات -كما فى أى مجتمع- لنهب ما تطاله أيديهم. ولكن يبقى اليمين المتطرف المتصاعد فى كل العالم منذ سنوات هو الأخطر تماماً كالتكفير المتطرف لدينا. تفسير آخر يمنحه لك موعد الانتخابات الرئاسية المحدد لها مطلع شهر نوفمبر المقبل، حيث يسعى الديمقراطيون لنجاح جو بايدن نائب الرئيس الأمريكى السابق أوباما.
لا أحد يمكنه التنبؤ بما ستنتهى له الأحداث بعد تلك المظاهرات التى لا يمكن اعتبارها إيذاناً بأفول القوة الأمريكية كما قال البعض، ولكنه مجرد إعداد جديد للمسرح الأمريكى بعد كورونا، فلنكن منتبهين له كما الحال مع ما يحدث فى منطقتنا.