بقلم: نشوى الحوفى
كان مصطلحاً تردده أمى -رحمها الله- حينما تريد تربيتنا لمنع التلفظ بأى كلمة لا تقبلها تربيتها لنا، فتقول بحسم وثقة: «ده كلام أولاد الشوارع.. عيب». لم تكن أمى وحدها مَن تردد ذلك علينا وتمارسه سلوكاً وفعلاً، بل كان الأقارب والجيران والمدرسة والدراما والبرامج حتى صبيان الجيران وهم يلعبون الكرة فى الشارع...
لم نكن نحيا فى صومعة بعيدة عن مجتمع كانت تتراجع أخلاقه يوماً بعد الآخر، بعد انفتاح غير ممنهج قلب موازين الهرم، ولكن كنا نعلم أن للكلام حرمة لا يجب تجاوُز عتبتها. كان الخطأ مرفوضاً، وكلمة العيب تسبق الحرام، والمراقب هو الضمير قبل صوت الأهل. كان هذا هو حالنا يا سادة فى زمن لم يكن فيه قنوات الفضاء المفتوح ومواقع التواصل الاجتماعى. ولكن كان فيه الجار والقريب فى مكانة الأب والأم، والكتاب صاحباً ومعلماً، والصاحب والزميل فى الدراسة معلوم الأسرة والبيت للآباء والأمهات. والتجاوز كارثة لا يمكن أن تمر بلا عقاب، ونظرة الأم رسالة واضحة المعانى المؤلمة عند الخطأ.
مرت الأيام وسيطر أولاد الشوارع على أولاد البيوت! فرضوا ثقافتهم وسبابهم وأسلوبهم فى الحوار، صارت الشتيمة والتطاول حرية، والاحترام رجعية وعبودية، واستخدام الألفاظ الفاحشة -لا الخارجة- تمكُّناً من الخصم، والقضية أياً كان مضمونها! وتنافس المتنافسون فى أساليب الرد خوفاً من أن يوصف أحدهم بالضعف أو التخلف أو بصفات من عينة «محترم»، لا سمح الله! لا تتعجبوا فقد انتقدنى يوماً مقدم برامج تليفزيونية، لأننى كنت محترمة فى نقاشى مع الدكتور شريف الشوباشى، حول دعوته لتنظيم مظاهرة خلع الحجاب! يومها تعجبت ولم أرد. فإن كان الاحترام صار نقداً فمن العبث الرد!
نعم ساعد الإعلام بقوة جبارة فى فرض ثقافة أولاد الشوارع وحوارهم. فالحوار الهادئ المبنى على الحجة والمنطق، ممل ولا يشفى الغليل. بينما الحوار الحاوى للتراشق بالألفاظ هو الحوار الجذاب للإعلان وملايين لجيوب المقدمين، ويا حبذا لو تطور الأمر لتطاول باليد أو بالكرسى أو بكوب من الماء أو ما تطاله يدك لتصل لوجه محاورك! ودخل على الخط قنوات الرياضة لتكمل ما بدأته السياسة! لنصل إلى مرحلة حدِّث ولا حرج فى غياب حضرة القانون. بينما كنا ومنذ سنوات غير بعيدة لا تتجاوز العشر نضع شريطاً صوتياً على الكلمة الخارجة فى قنواتنا فيسمع المشاهد «تييييت» على أى كلمة غير مناسبة لآداب الشاشة. ولكن للأسف فرضت حوارات أولاد الشوارع نفسها علينا كرهاً! وغابت التربية فى البيوت عمداً، فكان ما وصلنا له اليوم.
لماذا أحكى كل هذا؟ لأن الأزمة ليست أزمة سيدة تشغل منصباً ذا حيثية تطاولت على ضابط شرطة، فهى فى النهاية مواطنة. فعلها مرفوض ولو كانت ربة بيت، ومجرَّم ولو كان مَن أمامها مواطناً عادياً آخر. ففعلة تلك السيدة مع ضابط الشرطة لا تختلف عن فعلة أحد رؤساء النوادى مع رئيس الوزراء! فالتطاول مرفوض أياً كان مبرره أو سببه أو هدفه، لأنه لا يعنى إلا مزيداً من الابتذال والتدنى والتوحش. لذا يا سادة فالأزمة أزمة أخلاق لا بد أن نبذل قصارى جهدنا لاستعادتها مهما كلفنا الأمر من إنفاق مال أو تنفيذ قوانين أو إصرار على التربية والتعليم وإبراز للقدوة فى المجتمع.
حديثى ليس نوعاً من رفاهية الفكر المقتصر على العلاقات الاجتماعية، ولكنه يمتد لنواحى الحياة بما فيها الاقتصاد. نعلم أن دول الخليج باتت تفضل جنسيات دول جنوب شرق آسيا على العمالة المصرية، لأنهم أكثر التزاماً فى العمل. كثير من المستثمرين الأجانب تؤرقهم فكرة التعامل مع العمالة المصرية رغم رخص أسعارها فى مصر مقارنة بالخارج خوفاً من تطاول البعض على أصحاب الاستثمار فى حال حدوث خلاف بينهم يصل إلى حصاره وإغلاق المصنع عليه. لن أعمم فهناك محترمون ما زالوا يتمسكون بما تعلموه فى بيوت عظيمة بأخلاقها غنية بأدبها، ولكن حديثى عن نسبة لا يمكن الاستهانة بها من كل المستويات ومن كل المهن. نعم يا سادة نحتاج لإعادة الأخلاق والقيم بكل ما أوتينا من قوة، حرصاً على حاضر وحماية لمستقبل عاتى الأمواج.
فهل ندرك أزمتنا بحق ونبدأ فى وضع حلول لها حماية لنا ولبلادنا؟