بقلم: نشوى الحوفى
نشأت بين أبوين أدمنا ثقافة النجاح فى كل ما قاما به فى الحياة المهنية وفى بيتنا أيضاً. هل كان ذلك جزءاً من فكر الطبقة المتوسطة التى أنتمى لها ومعظم جيلى؟ ربما، ولكن الشىء الأهم هو ما زرعاه فى داخلى من احترام لمبدأ الكفاءة والإتقان والصدق تجاه ما يوكل لشخصى الضعيف. كان أبى يردد دوماً لى عبارة: «مش مهم تعملى حاجة كبيرة وتفشلى فيها، اعملى مهمة صغيرة جداً بنجاح حتى لو كانت جمع زبالة من حى. فلما يسألوا مين أشطر زبّالة يقولوا نشوى ويجيبوكى». من هنا آمنت بثقافة الإتقان فيما أقوم به ولو كان كنس البيت وتنظيفه. والاعتماد على مجهودى أياً كانت النتائج.
وارتبط بهذا المبدأ مبدأ آخر علمنى إياه والداى كان مفاده: «اعملى اللى تحبيه وكونى نفسك ما تكونيش حد غيرك وما تبصيش على غيرك عشان تنجحى»، نعم كان هذا المبدأ هو سبب اختيارى لدراسة الأدبى فى المرحلة الثانوية لعشقى للتاريخ والجغرافيا وعلم النفس والمنطق واللغات. أذكر أساتذتى ومعلماتى فى المدرسة حينما كانوا يستشهدون بقدراتى فى تلك المواد ويترقبون نجاحى ونتائجى ويستمعون لنقاشاتى معهم باهتمام. لم أنسَق وراء عبارات بعض الأهل التى سعت لدفعى لتغيير المسار للاتجاه العلمى للالتحاق بكلية الطب أو الهندسة فلم تكن طموحاتى إلا أن أدرس الإعلام أو المحاماة أو التدريس فقد أدركت نقاط القوة فى إمكانياتى وكانت ببساطة القدرة على ترتيب الأفكار والتعبير عنها وربطها ببعضها البعض.
كان كل هذا يتم فى إطار من سعة الصدر للنقاش مع والدى وفتح أبواب المعرفة أمام عقلى الصغير ومن دون إجبار أو توجيه. كان أبى يمتلك مجموعات من الكتب فى جميع المجالات، فلديه تجد كتب التفاسير الإسلامية وأناجيل المسيحية، تذكرة داود الأنطاكى وإبداعات أنيس منصور وإحسان عبدالقدوس ويوسف السباعى وأفكار طه حسين ورسالة أحمد حسن الزيات. فكان يقرأ ويحكى وشيئاً فشيئاً يدعونى للقراءة ومن بعدها يكون النقاش حول الفكرة، دون أن يجد غضاضة مع فارق العمر والخبرة فى الاعتراف بأننى ذكرت فكرة لم تطرأ على باله أو أننى فتحت له باباً للتفكير فى جزئية كانت خافية عنه وتحتاج لقراءة كتاب جديد. وهكذا تعلمت وقرأت وتقبلت الآخر بدون توجيه أو إجبار وتعلمت نقد الفكرة بالفكرة.
على الطرف الآخر كان لدىَّ أم أدركت المسئولية رغم جمالها الأخاذ منذ صباها فى بيت جدتى وجدى. وأصرت على أن أكون مثلها فى الاهتمام بالبيت وبأسرتى وكانت مع ما يعلمه لى أبى ومع اهتماماتى بالقراءة والنقاش والأنشطة المدرسية تردد لى دوماً: «كونى مديرة أو وزيرة أو رئيسة جمهورية، لكن إوعى تنسى إنك مسئولة عن خدمة ورعاية بيتك». فكان حرصها على تعليمى الطهى وتنظيف المنزل ورعاية أختى وأبى فى غيابها. لا بمنطق أداء الواجب وحسب، ولكن من باب اكتساب المهارة وأدائها باستمتاع. لتكمل فى شخصيتى الجانب الآخر من تكوين أبى لى دون تعارض بين هذا وذاك.
فى خضم كل هذا كان الاثنان يؤمنان بضعف الإنسان وقلة حيلته مهما وصل للمعرفة ومهما اكتسبها. فكان أبى يردد دوماً أن الحياة لا تساوى جناح بعوضة لدى الله، فما بالنا بالإنسان من الدنيا؟ إنه شىء تافه لا يُذكر مهما أوتى من قوة وعلم ونفوذ وأن فوق كل ذى علم عليم. بينما كانت أمى تردد عباراتها الأثيرة: «كسف الطبيعة حرام»، فى إشارة لضرورة احترام من حولنا وعدم التقليل منهم وعدم إشعارهم بالخجل أو رد مبادرتهم مهما قل شأنها. فكان التواضع لله والتباسط مع خلقه درساً لا تهاون فيه بالنسبة لهما.
من كل ما سبق تعلمت من أبوى الانتماء لمنزل لم يكن أجمل البيوت ولم يكن به كل الإمكانيات، ولكن كان فيه من القيم ما يغنيك عن الكون ومن سعة العقل ما يمنحك الحياة ومن طاقات الأمل ما يسند طموحاتك وأحلامك.
لماذا أذكر كل هذا اليوم؟ رسالة منّى لآباء وأمهات تناسوا فى ظل زحام الحياة والسعى على الرزق وتغير المفاهيم حولنا، احتواء الأبناء وتعليمهم قيماً هى أهم ما سيتركونه لهم فى الحياة.