بقلم: نشوى الحوفى
لا تعنينى صورة الرئيس التركى مرتدياً طاقية على رأسه وقت صلاة الجمعة فى كنيسة ومتحف آيا صوفيا وكأنها رمز الإسلام! كما لا تعنينى مسرحية صعود رئيس شئونه الدينية بالسيف لأداء خطبة الجمعة! ولكن يعنينى ما ترمز له تلك الحركات التمثيلية التى لا تختلف عما تفعله إسرائيل من منع مسيحيى غزة الوصول لكنيسة بيت لحم للصلاة فيها، أو سرقة حوض المعمودية من بيت لحم! نعم كلاهما يصر على إعلام العالم بمواقف ورسائل علينا فهمها فى زمن الفوضى.
مفروغ هو أمر إسرائيل منذ أن زرعوها بيننا لتفتيت المنطقة، ولكن ماذا عن الجبروت التركى الساعى لفرض رؤياه بالقوة بعد فشل نموذجه الملتحف بالدين فى السيطرة على مصر قلب العالم العربى ودرة الشرق فى عام 2013؟ كان الاتفاق الدولى قبل 2011 داعماً لتمدد تركيا الناعم عبر نموذج الإخوان التركى لتحقيق مصالح واشنطن ولوبيها فى المنطقة. ولكن لم يعد هذا النموذج قادراً على إقناع غالبية الشعوب العربية حتى لو سار خلفه منتفعون أدعياء للدين أو مغيبون جهلاء به. ولذا نعيد السؤال بشكل آخر: هل تستطيع تركيا ممارسة رذيلتها السياسية دون موافقة أسيادها فى العالم؟
الواقع يؤكد الإجابة بالنفى. فتركيا لا تستطيع خطو أى خطوة دون قبول واشنطن وإسرائيل. لا فى آيا صوفيا وحسب ولكن فى باقى خطواتها السياسية أيضاً. فتركيا لا تتحدى القرارات الدولية فى سوريا أو ليبيا فقط، ولكنها تهدد الأمن والحدود الاقتصادية لدول الاتحاد الأوروبى، التى فشلت فى اتخاذ موقف حاسم معها رغم تعديها على مصالح تلك الدول بالتهديد بملف اللاجئين تارة، والتعدى على المصالح الأمنية والاقتصادية تارة أخرى. تركيا اعترضت الفرقاطة الفرنسية فى البحر المتوسط، تركيا أعلنت إرسال سفينة للتنقيب عن الغاز الطبيعى بالقرب من جزيرة «كاستيلوريزو» اليونانية. صحيح أن فرنسا ردت على تركيا بالاشتراك فى ضرب سلاحها فى الوطية الليبية، وصحيح أن اليونان أعلنت أنها لن تسمح بالتنقيب فى مياهها الإقليمية، ولكن الاتحاد الأوروبى غائب عن فعل رغم التنديد بعقوبات لن تفرض على تركيا فى ظل صمت أمريكى مدهش! لكن المتابع يدرك أن لا دهشة فى الأمر.
فكما سمحت واشنطن لأنقرة بالعبث بالأراضى السورية على مدار سنوات بتمويل تطرف أو تدريب قوات الإخوان السورية أو سرقة بترول سوريا، لمواجهة الوجود الروسى فى سوريا، تتركها اليوم تتمدد فى ليبيا لنفس ذات السبب، كما تصمت عن تحركاتها فى المتوسط حتى ولو على حساب حلفائها الأوروبيين. وتتمدد فى القرن الأفريقى بإدارة ميناء جيبوتى وقاعدة عسكرية فى الصومال وتهريب سلاح إلى إثيوبيا.
فى اعتقادى المتواضع أن القصة لم تعد مقصورة على الشرق العربى، بل تمتد إلى مستقبل القارة الأوروبية فى تناغم للمصالح التركية الأمريكية إلى حين الانتهاء من دورها. نعم أمريكا لا يعنيها أوروبا. فقد كان المسمار الأول فى ضرب القارة الأوروبية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى 2016، ثم دعم صعود اليمين المتطرف فى أوروبا الخائفة من شبح النازية منذ الحرب العالمية الثانية. ثم كانت مظاهرات التنديد بالوضع الاقتصادى فى فرنسا، فيما عرف باسم مظاهرات السترات الصفراء، ثم انكشاف القارة على وضع مؤلم اقتصادياً وصحياً مع تفشى فيروس كورونا، الذى كشف أحادية المواقف بين دول الاتحاد، حتى إنها فشلت فى جمع 750 مليار يورو فى قمتها الأخيرة لدعم الاقتصاد الأوروبى. ومؤخراً كانت مظاهرات التنديد بممارسات الشرطة فى بلدان أوروبا بعد مقتل جورج فلويد على يد الشرطة فى أمريكا!
يتوافق السماح الأمريكى لسياسة البلطجة التركية مع حاجة أردوغان لها لدعم حكمه داخلياً. فاستطلاعات الرأى التركية -بما فيها النابعة من النظام- تؤكد تراجع شعبيته فى ظل مشكلات اقتصادية وسياسية فى الداخل التركى. وهو ما يعنى تهديد إعادة انتخابه فى انتخابات الرئاسة المقبلة 2023. ومن المعلوم أن أردوغان يسعى للاحتفال بمئوية تأسيس الجمهورية التركية فى 29 أكتوبر 2023 وهو رئيس لتركيا المتوسعة الممتدة كما كانت قبل تفكيك الإمبراطورية العثمانية! وهو ما يدفعه لمحاولة تعديل قانون الانتخابات الذى يشترط حصول أى مرشح على ما يزيد على 50% من الأصوات، لتصبح بالحصول على أغلبية الأصوات.
فهل يدرك المغيبون المهللون للعثمانى؟