بقلم: نشوى الحوفى
هى أخطر تجارة عرفتها البشرية منذ قديم الأزل، ففى العقل يكمن الوعى والإدراك والقدرة على التفريق بين الصواب والخطأ والحق والباطل. فى العقل جاء ونزل عُشر آيات القرآن تحث على إعماله بالتدبر والتفكر والتبصر والتأمل فى حياة البشر ومسيرتهم لفهم الحياة والغرض منها، تمهيداً للوصول لعمق وجوهر الإيمان بالله. وفى العقل تكمن قوة الروح وعزة الكرامة وإصرار الفؤاد على رفض اليأس. ولذا كانت تجارة العقول منذ قديم الأزل للسيطرة على مقدَّرات البشر ومكامن قوتهم ومنبع أفعالهم.
وتجارة العقول ليست حكراً على مجال، بل تتعدد فيها المناحى ولكن الهدف واحد.. السيطرة على الإنسان ورؤيته وتقديره للأمور وفهمه لها. قد تتحقق التجارة بالدين، وهو كما قال راسبوتين -أحد أشهر رجال الكنيسة فى روسيا القيصرية قبل الثورة البلشفية 1917- أفيون الشعوب، وكما قلت فى مقال سابق لى استكمالاً لمقولة راسبوتين، أننا لو أضفنا الجهل لهذا الأفيون لأنتجنا أدمغة حشاشين قتلة محترفين ينتظرون كلمة الإشارة بالإرهاب من أمير أو عمامة منحتهم زيف الحديث لدين الله، فاحتكر الفهم والتفسير والمعانى يحركهم كما شاء. ولنا فى تاريخنا منذ معرفة الإنسان لدين الله بعقائده المختلفة عبرة. ألم يكن مقتل هيباتيا أشهر عالمات الفلك والرياضيات فى العالم على يد متطرفين مسيحيين بإشارة من أو فهم خاطئ لكلام البطريرك وأداً لفكر وفهم وإعمال العقل لسنوات طويلة لصالح الكنيسة حتى كانت الثورة على صكوك الغفران فى عصور النهضة؟ ألم يكن الحشاشون وإخوان حسن البنا والمودودى وغيرهم رمزاً لهذا التغييب باسم الدين؟ ألا يُعد تحريم الخروج عن فكر العمائم بدعوى ثوابت الدين إنكاراً لحقيقة الدين ذاته؟ وقبل الغضب فكروا فى نموذج عمر بن الخطاب الذى رفض منح المؤلفة قلوبهم حداً ذكره القرآن لا الحديث، فهل يُعد ذلك خروجاً على ثوابت الدين؟
وتدرك من التاريخ أن كل أيديولوجيا سياسية كانت تجارة بالعقول. ألم تكن الفاشية والنازية تجارة عقل لمن تبعوها فدمرت العالم بما فيه بلاد مَن صدّقوها؟ ألم تكن الشيوعية تدميراً لإرادة الفرد والسيطرة على عقله بمسميات هلامية؟ ومن قبلها الحروب الصليبية.. ألم تكن لصالح أمراء جمعهم الجوع ومواجهة الحرب الأهلية فى بلادهم فحوّلوا نظرهم لبلاد المشرق؟ ألا تُعد القاعدة وداعش وغيرهما من مسميات الإرهاب أيديولوجيات دمرت الفرد والمجتمع؟ جميعهم تطرفوا باسم الانتماء لأيديولوجيا فقتلوا ملايين البشر باسمها، وتبعتهم ملايين من عقول باعت نفسها لكل مسمى.
وفى الثقافة تجار عقول محترفون... ألم تكن فكرة العولمة تجارة ثقافية بخلفيات سياسية فى عقول البشر للسيطرة عليهم تحت مسمى «العالم قرية واحدة وملامح واحدة وفكر واحد ورؤية واحدة»؟ ألم تفرض السينما الأمريكية نموذجاً زائفاً للمواطن الأمريكى فى أفلامها، فصار هو الهدف لكل شعوب العالم؟ وهو قمة الإرهاب والتطرف لأنه يلغى خصوصية الإنسان والمجتمعات ويدمجها فى بوتقة الأقوى والأقدر على التأثير الرافض للاختلاف عنه الساعى لنشر فكره وهويته بجميع الطرق، فأصبحت المثلية والشذوذ والبغاء والفوضى حريات شخصية، وصار من يقيدها معادياً للإنسانية والديمقراطية؟!! وأصبح النموذج الغربى هو النموذج الأوحد للديمقراطيات وما عداها سيطرة؟! وأصبح المنطق العالمى إما أن تدخل فى الصف فتكون معى أو ترفض فتكون ضدى؟! وللأسف وجد هذا المنطق من يروّج له فى عالمنا ويستبيح الهوية والجذور بدعوى محاربة التخلف والرجعية!! بينما قامت نهضة الأمم بالجمع بين الحداثة والأخذ بأسباب العلم والحفاظ على الهوية بتطوير كل جميل وتنقية ما مضى من الشوائب.
وفى الإعلام أيضاً تجار عقول عاشوا فى كل العصور وارتدوا عباءات كل صاحب نفوذ وسمعوا ورددوا ما انتهكوا به فطرة الفهم ووضوح المعنى لصالح الجهل والفساد والغباء، فنشروا التغييب وطمسوا الانتماء وزيفوا المعانى وادعوا الأمانة.. بلقطات فجة النتيجة تنشر الغل وتشجع الاستكانة، وكلمات تنبذ العلم وترفض رقى وسمو المسلك ووضوح الرؤية.
ولذا فنصيحتى دوماً لمن حولى: قاوموا تجار العقل بالقراءة واسعوا للفهم ونبذ جُبن السؤال، فالخوف جهل وخضوع وتسليم لكل صوت عال بلا مضمون. ارفضوا تجارة العقول، فهى الأمانة التى ستُحاسبون عليها أمام خالقكم يوم الدين.