بقلم: نشوى الحوفى
واحد من الكتب التى لا تمل قراءتها رغم مرور 23 سنة على نشره بالإنجليزية كسيرة ذاتية لكاتبه الأمريكى «ميتش ألبوم»، فهو لا يحكى عن نظريات فى علم تنمية الإنسان، بقدر ما يحكى عن خلاصة تجربة إنسانية عاشها فى زيارته الأسبوعية لأستاذه السابق فى الجامعة «مورى شوارتز» قبل وفاته بسبب مرض عانى منه لفترة طويلة.
«أيام الثلاثاء مع مورى.. عجوز وشاب وأعظم دروس الحياة» هذا هو اسم الكتاب الصادر فى العام 1997 ويحكى فيه ميتش ألبوم عن رغبته بعد سنوات من الانقطاع فى التواصل مع أساتذته بالجامعة وبحثه عنهم وبخاصة أستاذه فى علم الاجتماع مورى، الذى يجده فى النهاية مريضاً لا يفارق الفراش وعمره 76 سنة. كان ميتش يخطط لزيارة واحدة يرى فيها أستاذه وينتهى الأمر، ولكنه يقرر زيارة معلمه كل ثلاثاء لمؤانسته والتخفيف عنه وكجزء من رد الجميل لمن علّمه وبات بحاجة إليه اليوم، ولكن الحقيقة كما يقولها فى الكتاب أن مورى هو من قام بدور الأنيس وواصل مع ميتش رحلة التعلم.
أصبحت أيام الثلاثاء من كل أسبوع هى أهم أيام ميتش ألبوم، تعلّم فيها حقيقة العائلة والحب والثروة والصداقة والنجاح. أدرك من مورى أن أعظم ما فى الحياة هو التواصل مع البشر وحبهم حتى لو جاء الموت الذى لا يعنى نهاية الحياة بل بداية لحياة أخرى. العائلة هى الكنز الحقيقى، الأصدقاء الحقيقيون هم الثروة والملجأ من صعوبات الحياة.
يتذكر ميتش ألبوم فى الكتاب كيف بدأت علاقته بأستاذه عند التحاقه بالجامعة، لقد كان على وشك ترك القسم وتغيير مادة الدراسة، لولا سؤال من أستاذه مورى له قبل خروجه من المدرج عن اسمه المفضل ليناديه به. من لحظتها تبدأ صداقة بين الأستاذ والطالب لمدة سنوات الدراسة الأربع. وفى يوم التخرج يُحضر ميتش هدية للأستاذ الذى يبكى تأثراً ويطلب من تلميذه ألا ينساه. ولكن تأخذ الدنيا ميتش ويغيب سنوات عن أستاذه حتى يقرر البحث عنه.
تدرك فى الكتاب صعوبة لحظة يُبلغك فيها العالم ومَن حولك أن قصتك على وشك الانتهاء بعد أن كنت تملأ الدنيا حركة وعملاً ونشاطاً، فيطالبونك بالاستسلام لتلك اللحظة، بينما ما زال العالم حولك يسير ويتفاعل وتحدث فيه أحداث كل ثانية. فتدرك من تجربة مورى كيف أننا نعيش فى الحياة أوهام القوة وقدرة الفعل والتأثير وتغيير ما حولنا، بينما نحن غير قادرين على مقاومة مرض يصيبنا أو شيخوخة تتمدد فى أوصالنا فنستسلم لها. وأن القوة الحقيقية هى الحب الذى نملأ به حياتنا فيؤنسنا فى لحظات النهاية أو الضعف.
كان أمام الأستاذ مورى أحد خيارين: إما أن يستسلم للحزن والإحباط، أو يقاوم بالأمل ويجعل من ألمه ودنوّ لحظات غيابه عبرة ودرساً للبشر. اختار مورى أن يعلم الناس أهم دروس الحياة.. درس الموت. فالمفهوم الضيق للموت أنه مفارقة الدنيا والفناء، بينما هناك موت آخر هو موت الروح قبل الجسد والعيش بلا شغف. فيعلمنا مورى ضرورة أن تعيش الحياة عملاً وعطاءً لترك بصمة على كل ما حولك. وحينما تحين لحظة الفراق فى الحياة ترحل وقد تركت ذكرى طيبة هى كل ما يتبقى منك. فلا مالك أو نفوذك أو شهرتك سترحل معك، فقط ما سعيت لإسعاد أو إشقاء الناس به هو ما سيصحبك، ليبقى دعاؤهم لك أو عليك.
يزداد مرض الأستاذ مورى، فيعجز عن ترك الفراش أو الترحيب بزائريه. ولكنه لا يفقد شغفه بالحياة فيسأل من جاءوا لزيارته عن أحوالهم، فيشكون له متاعبهم! فيسمعهم باهتمام ويمنحهم نصيحته ورؤيته لعلاج مشاكلهم، فيخرجون شاعرين بالراحة والاطمئنان. ليؤكد لنا مورى أن تغيير الحياة لا يحتاج لإمكانيات ولكن لاهتمام صادق.
ويفارق مورى الحياة، ويحزن تلميذه ميتش، ولكنه لا يستسلم، فيؤكد لك أن الموت لا يُنهى علاقتنا بمن فارقونا!؟ فمن قال إن عدم رؤيتنا للعملة التى نضعها فى الحصالة يعنى فناءها، هى فقط اختفت عن أعيننا، ولكن بمجرد هز الحصالة سنسمع صوتها حتى لو لم نرها. ما أجمله من معنى يرسم علاقة الحياة والموت وقيمة الذكريات فى حصالة العمر. لذا فلو عرفت كيف تموت، فقد عرفت كيف تحيا.