بقلم: نشوى الحوفى
صبية كنت فى عمر الثالثة عشرة عام 1983 أتابع كملايين المصريين من مختلف فئات العمر برامج التليفزيون المصرى فى زمنه الذهبى حينما كان منبراً للوعى والتعليم والأخبار والتسلية والثقافة والفنون، كل ذلك رغم قلة الإمكانيات واستحالة مقارنتها بما هو كائن اليوم من إمكانيات تقنية ومادية. ولكن كانت تستوقفنى الأستاذة فوزية العباسى مقدمة العديد من البرامج حينها، وفى مقدمتها البرنامج الأسبوعى «كلمة فى سهرة».
كان البرنامج يناقش كلمة تمثل موضوعاً تدور حوله كل الأفكار والأطروحات بأكثر من ضيف فى مختلف المجالات المتصلة بالموضوع. على سبيل المثال حلقة دارت حول كلمة «الضحك»، يجمع الإعداد لها كل ما كُتب من معلومات وتقارير عالمية وأقوال مأثورة عن الضحك، وتطرحها لنا المذيعة فوزية العباسى كومضات تنير لك طريق الفهم، وتضفر تلك الفلاشات السريعة فى عالم الوعى بلقاءات مع شخصيات متنوعة تدعم الفكرة.
فاستضافت الفنان عبدالمنعم مدبولى والفنان سمير غانم والفنانة إسعاد يونس والفنانة سعاد نصر وناقشتهم فى الضحك ومفهومه لديهم والفرق بينهم كفنانين يقدّمون الكوميديا، وبين فكرة الناس عنهم فى حياتهم الخاصة، وهل فعلاً يملأها الضحك دوماً؟ كما استضافت الطبيب النفسى الشهير عادل صادق للحديث عن ميكانيزم الضحك وصحة الإنسان النفسية والجسدية، واستضافت كتاب كوميديا لمناقشة مفهومها فى الدراما وكوميديا اللفظ وكوميديا الموقف. وهكذا لا تخرج من حلقاتها إلا وأنت تشعر بالامتلاء والرغبة فى البحث عن المزيد من المعلومات الممتعة والثقافة المتعددة.
لا بسبب موضوع الحلقة وضيوفها فقط، ولكن لثقافة وأخلاق ورقى ومهنية فوزية العباسى. فقد كانت الكلمات تخرج من فمها فى عذوبة علمتنى الانتماء إلى الحروف، وكانت تطرح الأسئلة ببساطة وإنسانية وذكاء لا تشعر معها بالملل. وكان تواضعها الجم يظهر عليها وهى تحاور ضيوفها دون أن تتعدى المساحة المسموح لها بها فى عالم مهنية الإعلام.
أذكر لها حلقة من البرنامج -كثيراً ما تحدثت عنها وضربت بها المثل- عن الذكاء. وكان أحد ضيوفها الكاتب الأستاذ مفيد فوزى الذى قلّل من قدرة المرأة على مجابهة ذكاء الرجل.
فسألته بهدوء شديد ورقى أشد وبنفس نبرة صوتها: «كيف استنتجت ذلك؟»، فقال لها: «استفزيتك صح؟»، فأجابت بالأسلوب ذاته: «على الإطلاق، فقط أتساءل». فقال لها: «طيب قولى لى رأيك فى كلامى». فقالت: «ليس من حقى أن أقول رأيى يا أستاذ مفيد فى البرنامج.
أنا فقط أحاورك وأترك الرأى للجمهور». لن أنسى حالة السعادة التى منحتنى إياها تلك الإعلامية الراقية فى هذه الليلة التى لم تنسق لأى استفزاز فكرى أو جدلى، وهى تدرك دورها وحدودها فى مواصلة الحوار وانتقاء اللفظ.
لماذا أكتب عن الأستاذة فوزية العباسى اليوم؟ فوجئت يوم الجمعة الماضى بمنشور من صديقة على صفحتى فى «الفيس بوك» به جزء من لقاء تليفزيونى سابق لى تحدثت فيه عن الأستاذة فوزية العباسى وأسلوبها، وكتبت عليه الصديقة «شكراً لتذكرك أمى»! يا الله كم أنت كريم لتجعلنى سبباً فى وصول الشكر المستحق لتلك السيدة الفاضلة لتعلم أن هناك من يذكر طلاقة لسانها وذكاء لغتها ورُقى مخارج ألفاظها.
سعدت بالطبع بشدة، وعلمت من ابنتها الأستاذة رانيا أن عيد ميلاد والدتها الأستاذة فوزية الثمانين يوافق يوم 20 أكتوبر -يوم الثلاثاء الماضى- فتمنيت لو أن صحتها كانت تستطيع استقبالى كى أعبّر لها عن امتنانى لما قدمته لنا، ولكننى علمت أنها لا تستطيع استقبال الضيوف بحكم السن. فدعوت لها بكل الصحة والأمان فى أيام عمرها. وطلبت من ابنتها أن تفخر بوالدتها كما تشاء فلها كل الحق. فما رأينا منها سوى كل الاحترام للشاشة الصغيرة ولعقل المشاهد المتابع لها. وما رأينا منها غير نزاهة الكلمة والثبات الانفعالى بلا توتر وبلا مزايدة.
ابحثوا عن تسجيلات بعض برامجها وشاهدوها وتمنوا لها الخير علّ الله يستمع إلينا فيُكافئها بفضله، وهى التى عاشت عصراً كان يُعرف فيه من يعمل أمام كاميرا التليفزيون بلقب «مذيع» أو «قارئ نشرة» أو «مقدم برامج» أو «مذيع ربط»، فلم تحضر وصف إعلامى الذى ضخم ذوات الكثيرين ومنحهم صك فعل ما يريدون.
للأستاذة فوزية العباسى.. مليون تحية..