بقلم: نشوى الحوفى
تفرض الأحداث فى الجنوب الاستراتيجى نفسها على ساحة الاهتمام المصرى، بنفس قوة المد التركى الإخوانى للإرهاب فى الغرب الليبى. فها هى مناوشات الاختراق الإثيوبى للحدود السودانية، التى بدأت فى أبريل الماضى تصل إلى حد الاشتباك والإعلان عن مقتل نقيب بالجيش السودانى، وعدد من الإصابات دفعت الجيش السودانى إلى التهديد بالتصعيد فى حال فشل الحلول الدبلوماسية.
الخلاف بين أديس أبابا والخرطوم حول منطقة الفشقة الحدودية ليس بالجديد، رغم توقيع اتفاق الحدود بين الدولتين فى عام 1902. فتلك المنطقة الواقعة فى الشرق السودانى على مساحة 5700 كم بامتداد نحو 170كم، تعتبر ذات خصوصية متفرّدة للدولتين. فسكانها من السودان يحترفون الزراعة فى إحدى أهم المناطق الخصبة، إلا أن ضيق شريطها فى الجانب الإثيوبى واتساعه فى الجانب السودانى يغرى إثيوبيا دوماً بالتدخل فيها بدعم من جذور إثيوبية لقبيلة الأمهرة فى الفشقة السودانية، وهى قبيلة ينتمى إليها عدد من رموز حكومة أديس أبابا اليوم.
جاءت التطورات الأخيرة حينما قرر مجلس الحكم السودانى فى مارس الماضى نشر قواته فى الفشقة بعد غياب 25 عاماً بعد توقيع الطرفين اتفاق عام 1995، الذى نص على تنمية المنطقة بين الطرفين بشرط عدم وجود أى قوات عسكرية لكليهما. كانت الخرطوم ترى بعد خلع نظام حكم البشير ضرورة السيطرة على الحدود، وهو ما اعتبرته أديس أبابا اختراقاً للحدود! إلا أن الخطوة لم تتسبّب فى أى مشاكل بين الطرفين اللذين التزما الدبلوماسية الودودة بينهما منذ عزل نظام البشير، بوساطة رئيس الوزراء الإثيوبى آبى أحمد لإنهاء الخلاف العسكرى السياسى وتشكيل المجلس الحاكم فى السودان، وتقارب فى الرؤى دفع السودان لتبنى وجهة النظر الإثيوبية فى مسألة سد النهضة فى آخر مفاوضات جرت بوساطة أمريكية بواشنطن وانتهت برفض إثيوبيا رغم إعلانها مسبقاً الموافقة على ما جاء بها! فجاء تحفّظ السودان على بيان جامعة الدول العربية الصادر 8 مارس 2020 المتضامن مع حقوق مصر فى مياه النيل بدعوى عدم تسلّمها نص البيان قبل وقت كافٍ من إصداره لتباحثه، وهو ما ردّت عليه مصر بأن نص البيان تم تسليمه للخارجية السودانية قبل التصويت عليه بأسبوع!
ولكن لا شىء دائم فى السياسة، ففى 12 مايو 2020 أرسلت الحكومة السودانية رفضها مقترحاً لإثيوبيا بتوقيع اتفاق جزئى لملء بحيرة سد النهضة فى يوليو المقبل لعدم اكتمال جوانب التفاوض حول عدد من النقاط كآلية التنسيق وتبادل البيانات وسلامة السد والآثار البيئية والاجتماعية له على مصر والسودان على المدى الطويل. فهل لتلك التوترات علاقة بسد النهضة؟ وهل تخسر إثيوبيا السودان، أم أنها تضغط عليها فقط وهى تعلم مدى حاجة السودان فى تلك المرحلة إلى الاستقرار وكسب ثقة الغرب المراهن عليه لدعم السودان الجديد بعد إزاحة «البشير»؟ ليس السودان وحسب، بل مصر أيضاً -التى اتهمتها إثيوبيا بأن لها مصالح فى ما يجرى على الحدود الإثيوبية السودانية، لدعم موقفها فى سد النهضة؟!! وهو ما نفيناه مراراً- فالأزمة ليست فقط سد النهضة، ولكن تنامى الإرهاب فى منطقة حبلى بالصراعات والفقر.
المراقبون يرون أن آبى أحمد -رغم ارتباك سياسته بين الملاينة والعنف فى العلاقات مع دول الجوار- يعتمد على دعم غربى منحه جائزة نوبل منذ عام. يدعم تلك الفرضية الإعلان عن وساطة المفوضية الأوروبية لحل أزمة سد النهضة ببيان 28 مايو الذى شدد على أن: «حل الخلاف مهم للاستقرار فى كل المنطقة»، و«تجنب الاستقطاب المتزايد».. ورغم عبارات البيان الأوروبى الحاسمة، فإن الذاكرة لا تحمل تأثيراً يُذكر له فى قضايا مماثلة، فلا يزال صدى فشل الوساطة الأوروبية فى ليبيا يتردد مع ازدياد التبجح التركى فى طرابلس. ولكن إلى أى مدى سيكون التمادى الإثيوبى فى تجاهل مصالح الجيران؟