بقلم: نشوى الحوفى
«أثبتت التجارب التى تراكمت على مَرّ السنين أن الإصلاح إن لم يكن كاملاً، فإنه عندما يبلغ مرحلة معيّنة، تتشكل فى الغالب جماعات مصالح جديدة. وعند تحطيم الهيكل القديم، تصبح جماعات المصالح قوة مهمة تعرقل تقدم الإصلاح. ولا يمكن القضاء على العيوب الناجمة عن عدم إكمال الإصلاح، بما فى ذلك الفساد والفئات الريعية والظلم الاجتماعى، إلا بالمزيد من تعميق الإصلاح».
هكذا يبدأ كتاب «الصين فى الثلاثين سنة المقبلة» الذى صدرت ترجمته مؤخراً عن مؤسسة الفكر العربى ببيروت وشارك فى كتابته عدد من المتخصصين فى علم الاقتصاد من الصين وسنغافورة والولايات المتحدة الأمريكية. بل إن أحد المساهمين فى كتابته هو «روبرت فوجل»، أستاذ الاقتصاد بجامعة شيكاغو الأمريكية والحاصل على جائزة نوبل فى الاقتصاد عام 1993. الكتاب لا يعرض فقط لتلك التجربة الفريدة والنموذج فى عصرنا الحالى عبر رحلة امتدت من نهايات السبعينات وحتى لحظتنا الحالية، ولكنه يعرض أيضاً لما يحيط بهذا النموذج الاقتصادى والسياسى الذى بات فى مواجهة مباشرة مع الاقتصاد الأمريكى، الاقتصاد الأول فى العالم.
فالصين التى بدأت وضع رؤيتها عام 1978، مع تولى الرئيس دينج شياو بينج الحكم بعد عامين من الصراع على السلطة وانتشار الفوضى بعد وفاة الزعيم ماو تسى تونج عام 1976، قررت تغيير الأولويات والانطلاق بفكر مختلف لتنافس على قيادة العالم اقتصادياً. كان الجميع ينظر لتلك الرؤية بالاستخفاف. بلد يسير على النهج الاشتراكى الشيوعى بتعداد سكان يزيد على مليار نسمة، ونسبة نمو سكانى تتجاوز 2.6% ويعيش معظمهم تحت خط الفقر، فى ظل غياب تام للاستثمار الخارجى، كيف له أن يتحدث عن التقدم الاقتصادى أو مجاراة الدول المتقدمة؟
ولكن يعلن الرئيس «بينج» أن أهم أهداف سياسته الخارجية هو ترتيب الأوضاع الداخلية فى الصين، وجذب الاستثمار والتكنولوجيا على أحدث مستوياتها رغم الجهل والفقر والأمية والبطالة. لا ينسى الصينيون لرئيسهم الذى أسس لنهضة اقتصادهم مقولته: «ليس المهم لون القط أبيض أم أسود.. مادامت القطة تصطاد الفأر فهى قطة جيدة». وكان يعنى بها ضرورة جذب الصين لرؤوس الأموال الأجنبية ودفع عجلة الاستثمار والبناء وتحديث البنية التحتية وكافة الوسائل التى تحتاجها الصين من أجل نهضتها دون تمييز بين دولة من المعسكر الشرقى أو أخرى من المعسكر الغربى، المهم جذب الاستثمار للصين وتطوير أداء مؤسسات الحكومة الصينية ودفعها للبحث عن ميزاتها التنافسية فى السوق العالمية مع بناء الجبهة الداخلية الصينية وإجبار المواطن على أن يكون جزءاً من عملية التنمية لكى يعيش.
وتطرح الصين نظريتها الاقتصادية المميزة ويقبلها الحزب الشيوعى الصينى عام 1982، ولعل تلك الرؤية هى ما حمت الصين من مصير الاتحاد السوفيتى الذى انهار عام 1991، رغم تعرضها لموجة من المظاهرات الطلابية الحادة عام 1998 فيما عُرف باسم مظاهرات الميدان السماوى، فالإصلاح فى الصين لم يأتِ من خارج الحزب الشيوعى ولكنه جاء من داخله وبالتدريج ووفق رؤية لم يكن ليتحملها المواطن لولا القبضة الحديدية التى حكم بها الحزب الصين. وكان من أهم القرارات التى تم اتخاذها هو التصنيع المتقدم وتقبل ثقافة السوق الحرة فى المنافسة والتصنيع والاقتصاد -رغم الإصرار على اشتراكية الحكم- وتحرير عملية اتخاذ القرار الاقتصادى من المركزية. وتتعجب حينما تعلم أن هدف الصين فى أول مرحلة تطوير لاقتصادها من 1980-1990 كان حل مشكلة الغذاء والكساء للسكان!
نعم، ولا تندهش من أن الدولة التى جعلت أول أهدافها العشرية فى رحلة صعودها هو توفير الغذاء والكساء لشعبها باتت اليوم ثانى أكبر اقتصاد فى العالم، فليس بالأمانى تُبنى الشعوب.
وللحديث بقية ضرورية عن الصين.